مراجعة رواية “طوارق” للروائي “ألبرتو باثكث فيكيروا”
يحصل مرّاتٌ كثيرة أن أقرأ رواية فأنبهر بها ثم تمضي أيامٌ قليلة فتزول (هالة الانبهار الأول) فأعيدها إلى حجمها ومكانتها الطبيعيّة.
لكن بدا لي اليوم وقد انقضت أيامٌ قليلة على انتهائي من رواية (طوارق) أنّها رواية غير عادية، مؤلمة وملهمة جدّاً، وهي من الروايات النادرة التي حرصتُ الآن وبقرارٍ حاسم على أن أضعها في أعز مكانٍ في صدر مكتبتي، وسأحدثكم عنها ضمن النقاط التالية بحيادٍ وموضوعية ودون إطراءٍ مبالغٍ فيه رغم قناعتي بأنّها تستحقه:
بطل الرواية شخصٌ واحد هو (غزال صيّاح) وهو من بقيّة قبائل الطوارق الذين سكنوا صحراء المغرب العربي منذ أمدٍ بعيد، يزور (غزال صياح) رجلين سلكا دروباً في الصحراء حتى وصلوا مضاربه وبينهم وبين الموت خطوة.
يستضيفهم الطارقي (غزال صيّاح) ويحسن استضافتهم ويهيئ لهما أسباب الراحة بعدما نالت منهم مغبّة المسير في هاجرة النهّار وقيظ الصيف والسّرى في البيداء القاحلة، دون أن يستبين منهما أسماءهم أو حتى كيف استدلوا على مضاربه البعيدة في جوف الصحراء.
لا يمضي من الأيام إلا قليل وضيفيه عنده سالمين منعّمين حتى تأتيه عرباتٌ مصفّحة برجالٍ وبنادق يريدون أخذ الضيفين، يحاول الطارقي منعهم بكل قوةٍ مُتاحة لكنهم وبقوة السلاح يقتلوا أحد الضيفين ويأخذوا الآخر معهم ويمضوا في سبيلهم، والطارقي مأخوذٌ بالدهشة والصدمة، فهذا في عرف الطارقي إهانةٌ بالغة لايقبلها الحرّ الأصيل.
يقرر الطارقي الأخذ بالثأثر وتحرير ضيفه الأسير، فيرسل زوجته وأولاده وخدمه وأنعامه إلى مضارب بعيدة في الصحراء ويُسرج أحسن جماله (المُهري) ويتزوّد زوّادة الصحراء ويشدّ الرحيل مقتفياً الآثار ومهتدياً بالنجوم في الاستدلال على الجهات والأماكن.
أكشفُ من الرواية سرّاً واحداً وهو أن الطارقي سيقتل العشرات من أعدائه وسيحرر ضيفه الأسير وسيكتشف لاحقاً أنّ هذا الأسير هو الرئيس المخلوع (عبد الكبير) المدعوم من فرنسا والمنفي إلى مجاهل الصحراء.
يعمل الطارقي على إيصال (عبد الكبير) إلى الأمان خارج الحدود، وسيتعقّبه في هذه الرحلة جنودٌ مدجّجين بشتى أنواع الأسلحة هدفهم إعادة أسر (عبد الكبير) وتقديم الطارقي للمحاكمة، و كلّ ميدان هذه المطاردة صحراءٌ بلا حدود وبلا معالم إلا من كثبانٍ تمتدّ على مدى النظر.
يأسر رجال الدولة بأمر من وزير الداخلية (علي ماديني) زوجة الطارقي وأبناءه ويشترطون عليه القبول بالمقايضة، تسليم نفسه وضيفه مقابل تحرير أسرته، فيقرر الطارقي المضيّ بعيداً وهو تهديدهم بقتل رئيس الدولة إن لم يحرّروا زوجته وأبناءه، وحتى هذا الحد أقف لأن ما بعده سيُعتبر حرقاً لأحداث الرواية وخرقاً للعرف السائد بين كاتب المراجعة وقارئها.
الأسباب التي جعلتني أعتبر أنّ هذه الرواية من روائع الأدب كثيرة جداً منها :
بيئة الرواية مختلفة كليّاً عمّا عهدناه في الآداب عامةً، فجوّ الرواية يدور في الصحراء التي لم يُكتب عنها كثيرٌ في الأدب العالمي، أو على الأقل لم يصل إلينا، و يبدو أن الكاتب الإسباني (فيكيروا) الذي عاش طويلاً في هذه البيئة أحبّها حتى النخاع، يتّضح ذلك في كل صفحة وفي كل ما كتبه عن الصحراء.
الرواية تركّز على أنفة الطارقي ووفاءه لعاداته وتقاليده الموغلة في القدم والنيل من كلّ ما يهدد سمعته وعزّة نفسه.
قلة الشخصيات في الرواية يريحنا من إرباك الشخصيات والأسماء، وتسلسل الأحداث سريعٌ غير ممل، وفي كل مرّة نقتنع بأن الطارقي سيفشل في مهمّته نكتشف بأنّنا استسلمنا قبله وأنّ له خططاً منطقيّةً لم تخطر لنا على بال.
الترجمة التي قدّمها الدكتور عبدو زغبور تنمّ عن معرفةٍ واطلاعٍ واسع في البيئة الصحراوية، فثمّة اصطلاحاتٍ ومفرداتٍ تخصّ الصحراء أحسن المترجم استخدامها، وأجزم أنّ (لغة المترجم) قرّبتنا أكثر من بيئة الرواية وجعلتنا نتماهى أكثر مع هذه البيئة القصيّة نسبيّاً عن حياتنا ومجتمعنا.
السطر الأخير من الرواية مفجع، مؤلم، حزينٌ جداً.. ولا أعني (بالسطر الأخير) أواخر الرواية، بل أقصد حرفيّاً السطر الأخير منها، حيث ترك الكاتب الأمور تسير كما يحبّ القارئ ويتمنى، حتى يصل به إلى السطر الأخير، وهناك وفي آخر تسع كلمات من الرواية قلب الموازيين كلها وأهدر تضحية الطارقي ورمى بتعبه سدى..
الرواية بالمجمل أكثر من رائعة، وإنّي إذ أحكم عليها الآن بضميرٍ مُنصف وذهنٍ لا يعرف المبالغة في المدح والذم أقول: هذه الرواية من أجمل ما قرات، وصار الآن على رفّ الروائع في مكتبتي ثلاث روايات هم (الجبل الخامس، وذات الشعر الأحمر، و طوارق).
صدرت الرواية عن دار ورد / دمشق، وتقع في 303 صفحة من القطع المتوسط، وهي الرواية التي لاتُنسى، وأنصحكم بقراءتها، وتيقنوا أنكم ستشكروني كثيراً على هذه النصيحة.
- طوارق
- ألبرتو باثكث فيكيروا
- دار ورد