لاعب الشطرنج

مراجعة رواية “لاعب الشطرنج” للروائي “ستيفان تسفايغ”


دعوني أطرح عليكم سؤالاً قبل الحديث عن هذه الرواية، وهو سؤالٌ في غاية الأهميّة وأودُ معرفة أجوبتكم:
لنفترض أن رجلاً ولد وفي جيناته ما يجعله موهوباً وخارق الذكاء في مجالٍ ما كالرسم أو الموسيقى أو الشطرنج، ورجلاً آخر ولدته أمّه بموهبة عادية غير استثنائيّة لكنّه صقلها سنيناً طويلةً بالبحث والدراسة والممارسة، ثم اجتمع الرجلان في نزالٍ أو تحدٍّ واحد فأيّهما يغلب الآخر؟!.


شخصيّاً أجده سؤالاً محيّراً، وقد أجيبُ عنه بعد تفكيرٍ سريع بكلمةٍ معلّلة أو جملةٍ مبرّرة، وكذلك سيفعل غيري..
وحده (ستيفان تسفايغ) أجاب عن هذا السؤال بطريقةٍ مخالفة، لقد أجاب عنه برواية..


ولقد تيسّر لي أن قرأتها في ليلةٍ دافئة وأذهلني الرجل برأيه وأسلوبه وحنكته فكتبت حولها النقاط الأتية:


هذه الرواية هي آخر أعمال الكاتب النمساوي (ستيفان تسفايغ)، لأنّه بعدها بخمسة أسابيع فقط (عام 1942) أظلمت نفسه جرّاء الموت الدائر في الحرب العالمية الثانية، فشاور زوجته في الانتحار فوافقت وقالت: ( شكراً يا زوجي العزيز على هذه الفكرة النيّرة)، فكتبا أكثر من مئةٍ وتسعين رسالة لأصدقائهم وندمائهم يشكرون لهم حُسن صُحبتهم ويبرّرون لهم سبب إيثارهم الموت على الحياة، ثم ابتلعوا حبوباً منوّمة الواحدة منها تقتل البعير، ووضعوا لكلبهم حبّةً أخرى كي لايشهد على فجيعة أصحابه، ثم تعانق الزوجان عناق الموت ونبح كلبهما نبحته الأخيرة.


تحكي الرواية قصة شخصيتين اثنتين، الأول: (زينتوفيك) الموهوب منذ طفولته بلعبة الشطرنج، وقد وصل به الحال -وبعد العشرات من المعارك الذهنيّة فوق الرقعة ومع أبطال اللعبة- أن بزّهم كلهم وصار هو بطل العالم في الشطرنج، وانقلب حاله من فقرٍ مدقع إلى غنىً واسع، والشخص (ب) وهو المحامي الطموح الذي زُجّ به في السجن لأسبابٍ تتعلق بعمله ولا تهمنا معرفتها، ما يهمنا الآن أنّه سرق من معطف ضابط التحقيق كتاباً ليتسلى به في غياهب السجن، فكان هذا الكتاب عن الشطرنج وقواعده وبدائع استفتاحاته ومُخاتلاته، ولكون الرجل سجيناً لا سلوى له فقد جعل من هذا الكتاب تسليته ودأبه ليله ونهاره حتى حفظه عن ظهر قلب وتمرّس على الحركات كلها برقعةٍ صنعها من غطاء سريره وأحجارٍ من لبّ خبزه الجاف.

هنا في وسط الرواية إشارة رائعة يجب أن يتوقف عندها القارئ، الشخص (ب) كان يلاعب نفسه في زنزانته، فمرةً يتقمّص دور اللاعب الذي يحرّك الأبيض، وبعد إتمام النقلة يتقمّص دور اللاعب الذي يحرّك الأسود، وهذا ما جعله يعيش صراعاً نفسيّاً، فهو (كإنسان) بحاجة لأن ينتمي لموقف، موقف يجعله يميل للونٍ دون آخر، وهذا ما أرداه في انهيارٍ عصبي أوصله للمستشفى؛ مثل هذه المواقف والمتناقضات المتصارعة في النفوس نعيش أمثالها بشكلٍ شبه يومي وإن بطريقةٍ أبسط، فكم نرغب بشيءٍ يمنعنا منه عيبٌ أو خجلٌ أو تحريم فيتماسك أحدنا بينما تزّل قدم آخر، وهكذا تمضي حياتنا كلها في الصراع بين الرغبة في شيءٍ ونقيضه.

اجتمع الرجلان مصادفةً على ظهر سفينةً تمخر، ووافق بطل العالم (زينتوفيك) بعد ترفّعٍ على منازلة الشخص (ب) وهو الذي لم يلمس رقعةً أو بيادق وأحجار شطرنجٍ حقيقيّة في حياته كلها، وتمّ النزال فلِمَن برأيكم كانت الغلبة؟

الواقع أنّ نهاية الرواية جميلة جداً ومقنعة، والأحداث كلها تجعلك بانتظار الصفحات الأخيرة لمعرفة المنتصر في هذه (اللعبة الملكيّة).

الرواية بترجمة (يحيى حقي) ولم أعرف لمَ استبدل المترجم اسم الرواية (لاعب الشطرنج) بإسمها الحقيقي الذي وضعه لها كاتبها (اللعبة الملكية)، وإلى أيّ مدى يحق للمترجم أن يتلاعب بعنوان عملٍ أدبيٍّ يترجمه!!

صدرت الرواية عن دار المدى في 83 صفحة من القطع المتوسط، وهي رغم قصرها ليست مجرد رواية عابرة ، بل رواية تستحق القراءة والتروّي والتأمّل..

  • لاعب الشطرنج
  • ستيفان تسفايغ
  • دار المدى