أربعون

مراجعة كتاب أربعون للكاتب أحمد الشقيري

اعتزل أحمد الشقيري الناس، فرمى حاسوبه وهواتفه النقّالة في بيته في جدّة، وحمل في حقيبة ٍ صغيرة بعضاً من ملابسه البسيطة وكتبه الأثيرة، ورحل إلى جزيرةٍ نائيةٍ في المحيط الهادئ حيث لا يزور ولا يُزار، وسط لجّة البحر الطامي والهدوء المطبق إلا من هدير الأمواج المتعاقبة المتكسّرة أمامه على الشاطئ الفسيح، وفراخ النوارس تنعق في أعشاشها فوق أغصان الأشجار المعمّرة التي يداعب نسيم المحيط المُشبع بالأوكسجين أغصانها النّضرة، فتتمايل بحنوّ ٍ فوق كوخه الخشبي المتهالك.

إذاً فعلها أحمد الشقيري وسبقني إلى ما تروم إليه نفسي من عُزلةٍ أشتهيها بعيداً عن صخب الحياة، حيث لا شيء إلا التأمّل والإصغاء إلى موسيقى الطبيعة والتفكّر فيما تؤول إليه الحياة والنفس والأشياء، وقد بدا للشقيري أن يرحل دون زوجته وأبناءه غير أنّي لا تستقيم حياتي دونهم..

ليس بالضرورة أن يكون التأمّل تربّعاً على الأرض وأنت تغمض عينيك ساهماً في الظلام ويديك على ركبتيك تنصب السّبّابة وتضغط بالوسطى على الإبهام، يكفيك أن تعتزل الناس شيئاً من عمرك؛ خلوةٌ تحدّث بها ربّك ونفسك، فإن فعلت ذلك مع صوم ٍ مستمر تنظف به جسمك من السموم وعقلك من الهموم فإنّك عمّا قريب ستدقّ بكفّيك أبواب الحكمة.

واعلم صديقي أن الأحداث الكبرى في حياة الإنسان تأتي عقب خلواتٍ حقيقيّةٍ يعتزل فيها المرء محيطه ليصفو ذهنه مع ربّه ونفسه، كحال الدودة التي عقب ما تتشرنق زمناً في لفافة الحرير تستحيل فراشةً باهية الألوان تطير برشاقةٍ في الأرجاء.

وذِكرُ الخلوة محمودٌ في الأديان كلها:

ألم يعتزل النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم الناس الأيام ذوات العدد في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين.
ألم يكفّ النبيّ زكريا عليه السلام عن حديث النّاس أياماً بأمرٍ من الله.
ألم يرد في صحيح السنّة النبويّة أمر الإعتكاف في المسجد عشر أيام ٍ من أواخر رمضان، خلوةً مع الله بعيداً عن سائر المشتّتات.

هذا إذاً ما فعله أحمد الشقيري، وقد اصطحب معه كرّاسةً وقلماً وخطّ في خلوته البعيدة كتابه أربعون الذي حظيت به بعد لأيٍ ومشقة وكتبت حوله ملاحظاتي التالية:

لأن خلوته استمرّت أربعين يوماً فقد سمّى كتابه كذا (أربعون) وقسّمه إلى عشر أقسام هي: أربعون مع حياتي، قرآني، نفسي، تحسيناتي، قصصي، إلهي، كتبي، حكم النّاس، ذكرياتي، حكمي..

بعض الأقسام ملهمة وجذابة يمضي الوقت وأنت تقرؤها متشوّقاً مثل قسم: حياتي، تحسيناتي، إلهي.
وبعضها كأنه جاء لملئ السطور فحسب مثل قسم: قصصي، ذكرياتي، حكمي.

أعترفُ صراحةً أنني أعجبتُ بشخصية أحمد الشقيري أكثر من أي وقتٍ مضى، فمن ذلك الذي يمتلك الجرأة ليعترف للناس بالكثير من أخطائه وتجاوزاته وقد ستره الله وعافاه، ثمّ يحدّث النّاس عن أساليبه في الخلاص منها واصلاح سلوكه السلبيّ وعاداته السيّئة.

أشار في قسم كتبي إلى أربعين كتاباً كان لها بالغ الأثر في حياته ونظرته إلى الحياة ودعا النّاس لقراءتها والاستفادة منها، شخصيّاً سبق لي أن قرأت تسعةً من هذه الكتب، ولا أجدها مفيدةً بالقدر الذي أشار إليه، ومع ذلك فإنّي أحترم رأيه.

صدر الكتاب عن الدار العربية للعلوم ناشرون في ٢٧٠ صفحة من القطع الكبير، وقد استخدمت الدار الورق الأبيض الصقيل للطباعة ما جعل الكتاب ثقيلاً من ناحية الوزن وباهظ الثمن بالنسبة لمتوسطي الدخل (ثمنه ١٦ دولار).

طباعة الكتاب سيّئة للغاية فتنسيق الخط المستخدم صغيرٌ جدّاً، كما يحتوي الكتاب على عشرات الأخطاء الطباعيّة، حيث يمكن للقارئ الحصيف أن يحصي أزْيَدَ من مئة خطأ في مجمل الكتاب.

زبدة القول: الكتاب مُلهمٌ وبنّاءٌ وأنصح به جدّاً، والواقع أن المكتبة العربية تفتقر إلى مثل هذه التجارب العمليّة، وقد أبدع الشقيري في تقديم كتابٍ حول البرمجة اللغوية العصبية بشكلٍ جديدٍ مبنيٌّ على تجربةٍ حيّةٍ وخوضٍ دقيقٍ في المعنى العمليّ للتأمل، وقد استحق الكتاب مكانه في صدر مكتبتي على الرّف الذي أرصّ فوقه عيون كتبي وأحداقها.

  • أربعون
  • أحمد الشقيري
  • الدار العربية للعلوم ناشرون