مراجعة رواية المريضة الصامتة للكاتب البريطاني القبرصي ألكس ميكايليديس.
تحدّاني بعض أصدقائي القرّاء بقدرتي على التكهّن بخاتمة هذه الرواية، هذا التحدّي بالإضافة إلى تحوّل الرواية إلى “تريندٍ عالميّ” بُعيد صدورها، وحوزها على صدارة أكثر الكتب مبيعاً خلال فترةٍ طويلة على قائمة صحيفة نيويورك تايمز.. كل هذه العوامل شجعتني لوضع رواية “المريضة الصامتة” ضمن أجندة هذا العام، بل استفتاح قراءات العام الجديد بها.
ولا أنكر أنّني استنفدّت قدراتي التفسيريّة والتنبّؤيّة للتكهن بالقفلة الختامية التي وضعها الكاتب، لكنّي فشلت، نعم أعترف بذلك، بل كانت النهاية خلاف ما ظننت، وإنّها تحلّق في منحىً آخر لم يحضر لي في بال، وهي خلاف ما سيظنّه كلُّ قارئٍ على الغالب المتوقّع، وهذه الخاتمة هي أبدع ما في هذه العمل الروائي الذي أضع حوله النقاط الآتية:
في الرواية: تستدعي إحدى الجارات الشرطة عقب سماعها إطلاق رصاصٍ من الشقة المجاورة. عندما تصل الشرطة تجد الرسامة الشهيرة “أليسيا بيرينسون” أمام جثة زوجها “المصوّر غابرييل” مقيّداً إلى كرسيٍّ وقد تناثرت مادته الدماغيّة وعظام وجهه وجمجمته في أرجاء الغرفة نتيجة طلقات مسدسٍ من مسافةٍ قريبة.
تخفر الشرطة أليسيا وتبدأ باستجوابها، لكنها -الرسامة أليسيا- تعتصم بالصمت المطبق فلا تتفوّه بحرفٍ واحد، وتفشل كل محاولات استنطاقها. حتى إذا دبّ اليأس في نفوس المحققين يحكم القاضي بجنونها ويُعهد بها إلى مصحّة عقلية وتبقى هناك سنواتٍ ستة. وخلال هذه السنوات لا تكفّ عن السكوت العميم ولا يندّ منها إشارةٌ أنها ستفطر عن صيامها الكلامي هذا.
يأتي إلى المصحة طبيبٌ جديد اسمه “ثيو فابر” يجد في حالة أليسيا تحدّياً له، فيطلب من الإدارة -مدفوعاً بحماس الموظف الجديد- أن يتفرّغ لهذه المريضة فيوافقون له مع التحذير الشديد منها إذ طالما آذت نفسها ومعالجيها وزميلاتها المريضات.
يُنَصِّبُ الراوي وهو المعالج “ثيو فابر” نفسه محقّقاً، فيزور شقيق المغدور، وعمّة المريضة الصامتة، ويعود بذكرياتهم إلى الوراء، ويحاول الاطلاع على ملفات المريضة، وأسرارها، وقضايا تتعلق بأسرتها وتربيتها وطفولتها، وهنا يحار القارئ في كون هذه الشخصية “ثيو فابر” محققٌ حكومي أم معالج نفسي، وهل يحق/أو يُطالب المعالج النفسي مراجعة كل هذا التاريخ للحالة التي يعالجها. سؤالٌ أترك جوابه لأصحاب الاختصاص.
لا أكشف سرّاً إن قلت أنّ المريضة ستتكلم أخيراً، هذا شيءٌ يتوقعه كل قارئ، لكن ما ستقوله المريضة الصامتة لن ينمّ لنا عن أسرارٍ كنّا ننتظرها، بل سيخرج هذا من صفحات مذكّراتها التي ستقول كل شيء. وعندئذٍ ستنقلب أحداث الرواية وستنحني كل أصابع الاتهام التي كنا نوجهها للمجرمين المحتملين دون أن نجد أحداً يليق بنا إدانته حتى نصل إلى الصفحات الأخيرة لنكتشف أن المجرم هو آخر شخصٍ كنّا نتوقعه/ها.
مهارة الكاتب واضحة في جعل القارى يرمي كل شخصيات الرواية بسوء الظّنّ، شخصيّاً شككت بالمعالج ديوميدس، ثم بماكس شقيق المغدور، واشتبهت بأليسيا نفسها غير مرة، وبكريستيان المشرف السابق على علاجها قبل أن يستجدّ عندي ما يبرّئهم جميعاً وهكذا حتى الفصل الأخير لتتوضح النهاية المفاجئة. وهذا ما يمنح الرواية رتبة العميد على صعيد التشويق.
لايُخاطب الكاتب عين القارئ إذ لا نجد في الرواية تركيزاً واضحاً على الصفات الجسدية للشخصيات أو طبيعة الأماكن وبيئة الأحداث، بل كلّه ضمن ما يتطلبه العمل الروائي فحسب. على النظير من ذلك نجد تركيز الكاتب منصبّاً على اختلاجات النفس البشرية والتداخلات والمفارقات التي تؤثر بها وتتزامن مع التصرّفات الناجمة عنها ما يجعل تصنيف الرواية نفسيٌّ في الاعتبار الأول.
يؤخذ على الكاتب استغراقه في القضية من الناحية الجُرميّة لدرجة أنه يمكن تصنيف الرواية ضمن الأعمال البوليسية أيضاً دون حرج. كما نجده يركّز على ما لايتعلق بموضوع الرواية ولايتفاعل معها من مثل تركيزه على الحرّ الشديد في صيف لندن وتكدّر الرسامة أليسيا من هذا لدرجة أنها تذكره تقريباً في كل صفحةٍ من مذكراتها. وقد وطّد هذا ظنّي بأنّ حرّ لندن المزعوم سيتقاطع مع الحدث الرئيس دون أن يكون، في المحصلة، حقيقيّاً. وربّما أراده الكاتب زيادةً في تشتيت القارئ لا أكثر.
صدرت الرواية عام 2020 عن المركز الثقافي العربي وبترجمة غير متكلفة من الأستاذ محمد مُفضل، وتقع في 399 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية مشوّقة، تدفع القارئ لاستشراف النهاية دون أن تعينه عليها، أنصح بها كلّ القرّاء، وتحديداً القرّاء الأغرار الذين لم يعتادوا القراءة المتأنيّة ويبحثون عن النماذج الأدبية المفعمة بالاتقاد والحماس، فهذه كُتبت لهم.
- المريضة الصامتة
- ألكس ميكايليديس
- المركز الثقافي العربي