لم يصلّ عليهم أحد

مراجعة رواية “لم يصلّ عليهم أحد” للروائي “خالد خليفة”

في رواية “لم يصلّ عليهم أحد” سقط خالد خليفة و”لم يسمّ عليه أحد”.


قدّم الكاتب بناءً روائياً جميلاً، متداخلاً ومعقّداً، تتداخل فيه الشخصيات والصراعات والآراء وتتبدّل الأزمنة والأمكنة بسرعةٍ وخفة، لكنّه لم يكن قادراً على الإمتاع والإقناع والتأثير.
إنّ من يرغب في العثور على الجانب القوي في الرواية لن يحتاج وقتاً طويلاً ليصل إلى نتائج جيدة، أمّا من يريد العثور على الجانب الضعيف فلن يحتاج للبحث أصلاً..
تطرح الرواية رؤية أوليّة مفادها قدرة قهر الطبيعة على اجتثاث الإنسان وتحطيمه واخضاعه تحت جبروتها القوي، وإذا تريّث القارئ ودقّق في مطاوي رسالة الرواية سيجد أن أثر الحروب وعداء الإنسان وكيده لأخيه؛ له آثارٌ أشدّ قساوةً، وندوبها في النفس أعمق وأبعد غوراً لدرجة أنها ترافقه حتى أيامه الأخيرة.


يفتتح الكاتب روايته بعودة الصديقين حنا وزكريا إلى قريتهما (حوش حنا) ذات مساء فيجدانها وقد أصيبت بلعنةٍ جحيميّةٍ غاشمة؛ طوفانٌ هادر أتى على القرية وأهلها، فقضى بجملة من قضى على ابن زكريا وابن حنا وزوجته.


تصير ذكرى الطوفان كابوساً ينخر أرواح من تبقى من أهالي القرية الذين ينتقلون إلى قرىً أخرى بعد دمار بيوتهم، كما ينتقل زكريا وزوجته شاها مع صديقه حنّا إلى بيتهم في حلب لعلهم يتعللون بعد هذا الاغتراب المرير الناجم عن فرقة الأحباب.
عند هذه النقطة يبدأ الكاتب بعلاج الزمن الروائي في العمل فيعود إلى ذكرى الآباء وحديث بداية الصحبة بينهم (أحمد البيازيدي أبو زكريا وسعاد، مع كابرييل كريكورس أبو حنا الذي يقرر إقامة قرية على اسم ابنه الذي بقي حيّاً بعد مجزرة ماردين 1876)، ثم يعود الكاتب إلى الوراء جيلاً آخر فيقف على قصة نشوء الصحبة بين الجدّين نجيب البيازيدي (جد زكريا) والطفل حاييم استانبولي، والذي سينجب لاحقاً ابناً يسميه عازار الذي سيدرس الهندسة ويبني قلعةً للذّة والمجون تقطنها بناتٌ صفر اليدين من العفاف، تشرف عليهم قوّادة خبيرة اسمها شمس الصباح! ثم تمضي بنا الرواية في فصولها الأخيرة إلى أبناء الأحفاد حتى نستقر أخيراً على حياة أربعة أجيالٍ متعاقبة.


في الرواية تفاصيلٌ وقصصٌ شتى:حكاية اتفاق الأصدقاء (حنا وزكريا وعيسى وعازار) على بناء قلعةٍ للقمار والمجون.

حكاية عارف شيخ موسى (أخو شاها زوجة زكريا) وهوسه بصفقة شراء قطار يقطع الأقطار، وتورطه مع عزوز الدرعوزي بصفقةٍ خاسرة تُفلسه تماماً.

حكاية الحب الناشب بينا حنّا وسعاد وإهداؤه قميصاً من حرير مع طلبها بألا يلبسه بحضور العاهرات التي يُدمن على مجالستهن (بل أكثر من مجالستهن)، لكنها ستكتشف أنّه خان العهد معها وأهان مشاعرها ففقدت ثقتها واحترامها للرجال جملةً واحدة، ثم قصة زواجها متأخّرةً من حسن المصابني.

ثم حكاية مريم الأرمنية التي تزوّجت من أورهان المسلم وأنجبت منه أطفالاً مسلمين بحكم العادة، والتي بقيت تضمر مسيحيتها إلى أن بلغت آخر عمرها فخرجت لتنتصر لقوميتها ودينها الموءودين سنواتٍ طويلة في صدرها. وحكاياتٍ أخرى كثيرة يزيد عددها عن ثلاثين حكاية، معظمها حكاياتٌ ثانوية لاترتبط بالمحور العام للرواية.


أجمل فصول الرواية فصلين لو اكتفى الكاتب بهما وتوسّع في تفصيلهما لبلغت الرواية رتبة الكمال:
الأول: فصل انتقال حنّا إلى الزهد بعد أن تمرّغ سنيناً في الخسّة والدناءة، ورحلة الحج التي قام بها مع ماريانا التي سعت إلى ضرب عزلةٍ عليه وتعليمه أصول حرفة القداسة وفنّ التعامل مع سواد النّاس من المؤمنين بعصمته وانتظار موته وهو على هذا الحال كي لاتفقد (ماريانا) دعم الفاتيكان للدير والخيرات التي يغدقها الناس عليهم كل شهر.


الفصل الجميل الآخر: حكاية صالح العزيزي الذي كان مرسالاً بين عائشة وحبيبها، فأحبّ صالح عائشة من خلال رسائلها، ثمّ معاناته من آلام الصبوة، ووشايته بها لزوجها الضابط العصبي الأحمق ليخلوَ الجو له..ثمّ انخراطه مع الدراويش والمتصوّفين ليقرأ عليهم رسائل حبها والناس يظنّون أنها أشعارٌ في الحب الصوفي ثم انتحاره متدلّياً من مئذنة الجامع الكبير.
إذا أنعمنا النظر في هذا النص الروائي وموقع الرواي منه نكتشف أن الكاتب لم يبتدع بناءً جديداً، لكنّه أجاد في مزج الأشكال المعروفة؛ فمرةً كان راوياً منحازاً، ومرةً كان حيادياً، ومرةً تعددت الأصوات في الراوية (تكنيك اللاموقع)، وسنجد بدرجةٍ أقل نجوى الحوار الداخلي بين الشخصية وذاتها، وقد أحسن الكاتب الانتقال اليسير بين هذه النماذج وتوظيفها في مصلحة متن العمل، دون أن يُرهق القارئ بربط السرديّة بصاحبها.


يؤخذ على الكاتب أشياءً كثيرة أوجزها لكم في النقاط الآتية:

اعتنى الكاتب بزمن الرواية دون أن يعتني بالزمن النفسي للشخصيات، فالتغيرات السريعة في حياة الناس والمدينة والتي فرضتها الحروب والكوارث ودوران عجلة الأيام، لم نلقَ -خلال الزمن نفسه- تغيّراً مفهوماً في أمزجة الشخصيات الرئيسية والثانوية، ولايمكن للكاتب أن يفترض أنّ القارئ سيكتشف ذلك بنفسه دون أن يذكره الكاتب أو يلمّح إليه.
(على سبيل المثال: نتفهّم انتقال حنّا من حياة المجون إلى الزهد والتنسّك، واقتداء زكريا به والسير على منواله بعد التفجّع بخسارة الأبناء في كارثة الطوفان، لكنّه في آخر حياته وبعد أن وصل ليُطَوَّبَ قدّيساً شكّك بوجود الله واعتبر المسيح مجرّد فكرة، كيف حصل كل هذا التغيير؟! مثال آخر: الحاجة أمينة (عمّة سعاد) المتحفّظة والتي صارت قياديةً في حركة المجاهدين لدرجة أنّها تأمر فتُطاع، بل أكثر من ذلك تقضي وتحكم بالحرق والموت والإعدام، وحولها رجالٌ ملتحون “على حدّ تعبير الكاتب” ينفّذون أوامرها بطاعةٍ عمياء وعقلٍ مُغيّب. من أين أتتها كل هذه السلطة؟!.
عملياً لم يورد الكاتب ولم يفسّر لنا معنى هذا التغيير، أو الدافع الذي عزّز لدى الشخصيات هذا الانتقال والتطور غير المفهوم!).

لم تتصف الأحداث الروائية بالمعقولية، خاصةً لمن يعرف مدينة حلب وشعبها، فنجد تطاول الكاتب على المدينة وتاريخها بشكلٍ فظ. فمدينة حلب لم تشهد يوماً ميلشياتٍ مسلحة تحرق بيوت الناس ومسارحهم وقلاعهم؛ فمن أين أتى الكاتب بهم ليجعلهم حقيقةً يعاني منها أكابر المدينة من اليهود والنصارى؟!! وأبعدُ من هذا: مشاهد حرق القلعة التي تقطنها المومسات التائبات والتي هجم عليها “الملتحون” هنا سنقرأ مشاهد فظّة وتثير الريبة عمّا يريد الكاتب إيهام القارئ به، فالمومساتُ تائباتٍ، وكل شخصٍ سيتعاطف معهم ويرأف بحالهم، بمن في ذلك المتعصّبون لدينهم، فلمَ جعل الكاتب (هؤلاء الملتحين) بكل هذا القدر من الوحشية وانعدام العقل والضمير؟! ولِمَ يحرص دائماً على استخدام هذا التعبير (ملتحون)؟!. عطفاً على لامعقولية الأحداث تضحكني فكرة اكتشاف الناس رفات ديناصور ثم نقل عظامه إلى (إعزاز) ووضعه في غرفةٍ في منزلٍ مهجور وكأنّه متحفٌ للتاريخ الطبيعي!!. وشيءٌ آخر: كيف يرضى المهندس عازار بن حاييم أن يبني في القلعة منصّةً للانتحار؟؟ ألا يتنافى هذا مع السبب الذي لأجله بُنيت القلعة!! فإذا كان زكريا وحنا ووليم ميشيل عيسى أقاموا القلعة لمجونهم وعبثهم ومقامرتهم مع أصحابهم، وتفسّقهم مع كوكبةٍ من الخليعات الفاجرات، وقد تعاهدوا بالدم على الأخوة والصداقة فيما بينهم، لماذا يرضى حنا ببناء منصّة لينتحر عليها من يشاء من ضيوف القلعة؟ دعكم من أنّ أحداً لم يستخدمها، ولكن أليس من الأقوم في السياق أن يقف باني القلعة إلى جانب أصحابه بدل من أن يسهّل لهم سبيل الموت والفناء؟!! ووليم الذي افتتح استديو تصوير حيث تقاطرت عليه جميلات حلب لتخليدهنّ في لقطاتٍ ساحرة وإنشاء ألبوماتٍ تضمّ صورهنّ العارية وشبه العارية. أقول: لايستقيم في عقل القارئ السويّ قبول هذه الفكرة وهنّ سليلات عائلاتٍ محافظة وملتزمة. وغير ذلك من الأحداث والمواقف المدهشة الغرائبية التي تتنافى وتاريخ المدينة وأهلها، وسأعود إلى هذه النقطة لاحقاً.

رغم أنّ الرواية تمرّ على مدار أربعة أجيال متعاقبة إلا أنّنا لا نجد مفهوم الأسرة حاضراً فيها، على العكس، سنجد أن التصدّع والتفرّق ينهش بنيان الأسرة في الرواية بشكلٍ كامل، فالتخلّي عن الأبناء حاضراً، وهروب الأبناء وسفرهم حاضرٌ أيضاً، ثم شيءٌ كثيرٌ من الشرود مع العشيق، والأب المغيّب، وتخلي الأم عن أبناءها!! كنت أتمنى لو تمرّ بي أسرةٌ مثاليةٌ واحدة. الأعجب أنّ المدقق في ظروف هذه العائلات لن يجد للحروب وكوارث الطبيعة اليد الطولى في أسباب هذا التفكك بل هو أمزجة النّاس المضطربة، والتحلّل الاخلاقي، والسعي نحو الحرية، والتبرّؤ من حمل مسؤولية الأبناء.
وبالتدقيق في كلّ شخصيةٍ على حدة سنجد أنّ كل شخصيات الرواية خائنة، أزواجاً وزوجاتٍ.. قلوبهم محبّةٌ نعم، لكنّ أجسامهم متخمةٌ بالشبق، ومُشرعةٌ لطالبي المُتعة السريعة. أسأل الكاتب: هل هذا ما نصح به خبيره النفسي الذي شكره آخر الرواية ؟؟

قلتُ في مقدمة قراءتي أنّ الكاتب (وقع)، أقصد بها وقوعه في الفخّ نفسه الذي وقع به في رواياته السابقة كلها وهو الفخ الذي عانى منه القرّاء من محبي أعمال (خالد خليفة) وهو حشد الرواية بشخصياتٍ كثيرة وتفاصيل فرعية كان العمل بغنى عنها، فمثلاً في الثلث الأخير من هذه الرواية ترك الكاتب أبطال روايته وانتقل ليحكي لنا كيف تمضي (فطيم وهيلين ومريم) حياتهنّ بصحبة أزواجٍ غير راضياتٍ عنهم دون أن يهيّئ الكاتب قرّاءه للحديث عن هذه الشخصيات، فمن الطبيعي إذن أن يشعر القارئ بالغربة هنا، ولسان حاله يقول: لاتعنيني حياة هؤلاء.. احكِ لي ماذا حلّ بحنّا وزكريا وسعاد.

يتفاصح الكاتب فيذكر شيئاً مُختلقاً ويدّعي أنّه جزءٌ من تاريخِ المدينة وسياسة تعامل أبناءها فيما بينهم فيقول حرفيّاً: “حين كان المسيحيّون يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية، لايحق لهم السير على الرصيف، ويجب أن يهبطوا من الرصيف إذا قابلوا رجلاً مسلماً، وعليهم ارتداء ألبسة خاصة تميّزهم عن المسلمين، والأهم يجب دفع الجزية عن كلّ رأسٍ مسيحي يريد الاحتفاظ بديانته. كان كابرييل كريكورس يدفع الجزية عن العائلات الفقيرة التي لاتملك مالاً، ويتبرّع سرّاً للمحتاجين.” (ص 102).
أتساءل متى كانت حلب بكل هذا الحقد الظالم غير المتسامح!! الحقيقة أنّني وجدت مبرّر هذه الضغينة في آخر صفحتين من الكتاب عندما وجّه الكاتب عرفانه بالجميل لجامعاتٍ قدّمت له منحاً ليكتب (في أحضانها) فصولاً من الرواية. يذكّرني هذا بمواقف مرّت معي خلال رحلتي مع التدوين عندما عرضت عليّ جهاتٌ أدبيةٌ (من أوروبا الشرقية تحديداً) كتابة قصصٍ قصيرة تدور حول الأقليات في المشرق ومعاناتهم مع الغالبية المسلمة!! وبالطبع تنزّهت عن تلويث قلمي بمثل هذه الترّهات. والحقيقة أنّني لاأغمز من قناة الكاتب، إذ أحسب أنّه لايزال نظيف اليد، لكنّ تهجّمه الدائم على مدينة حلب وأهاليها لا مسوّغ له، ولمن يريد التأكد فليقرأ أعمال الكاتب كلها فسيجد منه العجب! وقد فني منّي كلّ رجاء أن يصطلح هذا الرجل مع مدينته؛ فليكتب إذاً مايشاء.

هذا بعضٌ من كثير إذ أنّ غايتي من هذه المراجعة الانتقاء لا الاستقصاء، وهدفي إبراز مواطن الجمال والقوة، ومكامن الضعف والترهّل في هذا النسيج الأدبي، وكلّه من وجهة نظر قارئٍ محبٍّ للأدب لايدّعي لنفسه مقاماً في النقد. وأحسب أن للكاتب روحاً طيّبة وعقلاً متفتّحاً يتقبّل كلّ الآراء ويُسعد بها.

صدرت الرواية عام 2019، عن نوفل / الناشر هاشيت أنطوان ، وتقع في 348 صفحة من القطع الكبير. وبالمجمل هي رواية جيدة، ناضجة، مُرهقة لقارئها، أعتبرها أفضل ما تفتّق عنه ذهن كاتبنا النجيب.

  • لم يصلّ عليهم أحد
  • خالد خليفة
  • نوفل هاشيت أنطوان