مراجعة مجموعة “غراميات مرحة” القصصية للروائي “ميلان كونديرا”
يلتقط ميلان كونديرا في مجموعته هذه أكثر المواقف الإنسانيّة حرجاً (كالدين، والجنس، والسياسة)، والعلاقة الفلسفية المحتملة بينهم، حيث ترى شخصيات العمل الرئيسية أنّ هذا الثالوث يشكّل مؤسساتٍ تسلّطية تحكم الإنسان من خلال تعاليم قسرية،
الدين من خلال تشريعاته (بحسب رأي شخصيات الكاتب).
والسياسة من خلال قوانينها وأحكامها.
والجنس من خلال غرائزه المتجذّرة في النفس البشرية.
يحاول كونديرا أن يخلّص شخصياته من تبعيّة هذه السلطات الثلاث عن طريق حوارٍ هزلي نشأ في جوٍّ من اللعب والتسلية لا يلبث أن يتطوّر إلى خطابٍ مغلق حيث يردُّ كلٌّ على الآخر من منظوره الخاص الذي يكشف للقارئ دوافعه ونيّاته المبيّتة، يجمع ذلك كله مفارقاتٍ عجيبة تنشأ عن سوء الفهم والمظاهر الزائفة التي يغلف بها أبطال القصص مرامهم الصريح.
في القصة الأولى (لا أحد سيضحك) يصل خطاب من (زاتورتسكي) إلى بطل القصة الذي يعمل مدرّساً لمادة تاريخ الرسم في الجامعة، يطلب فيه أن يسجّل رأيه في دراسةٍ أعدّها عن تاريخ الفن، وأنّ رأيه هذا سيكون بالغ الاهمية (لزاتورتسكي) لأنه يبني عليه آمالاً في وظيفةٍ راقية. يطّلع البطل على الدراسة فيجدها سطحية ولاترقى لدرجة العمل الاكاديمي الجاد، فيتراجع عن كتابة مقاله المادح للدراسة ويبدأ بالتهرّب من (زاتورتسكي) الذي صار يلاحقه من الجامعة إلى البيت حتى بلغ به المطاف أن صارت المدينة على اتساعها سجناً للرجل وصديقته (كلارا) التي لم يكفّ (زاتورتسكي) وزوجته عن ملاحقتها أيضاً.
في هذه القصة معانٍ جمّة عن قوّة الكلمة وتأثير الوعود الجوفاء التي نطلقها دون اكتراث، فبطل القصة انقلبت حياته جحيماً لأجل كلمة جميلة قالها في لحظةٍ هاربةٍ من وعيه، وهنا يرسم لنا الكاتب بعبقريةٍ واضحة تغير رأي سكان الحي بالبطل وصديقته كنتيجةٍ لما ينشره (زاتورتسكي) عنه في آذان الناس.
في (لعبة الأوتوستوب) وهي واحدة من روائع هذه المجموعة، يطلب البطل الذي يقود سيارته رفقة صديقته أن تستقلّ سيارةً أخرى لإحضار بعض الوقود الذي نفد من سيارته، تتهمه صديقته بقلة المروءة لأنه طلب منها ذلك على علمه بأنّ السائقين سيستغلون أنوثتها خلال طريقهم إلى المحطة. وهناك يلعب الصديقان لعبة (الأوتوستوب) فيوهمها أنّه مجرد شابٍ يغوي الفتيات وماهي إلا شابة تتسكع على الطرقات. خلال اللعبة تتقن الفتاة دورها لدرجة الاحتراف ويزعجه كيف استطاعت وهي الرزينة العفيفة أن تبرع في هذا الدور الرخيص، وقال في نفسه أنّ براعتها في تقمّص هذه الشخصية يعود إلى كونها كذلك فعلاً، وأنّ شخصيتها الداعرة حرّرها وازع اللعب فصار ينفر منها فراراً متزايداً بعد أن كان الغرض من الرحلة توكيد أواصر الحبّ والصداقة.
في قصة (إدوارد والرب) يخرج الدين كلاعبٍ ومحرّكٍ أساسيٍّ في القصة، فإدوارد الملحد والذي يعيش في مجتمعٍ يرى في التنكّر للدين حضارةً وتقدّماً (!!) يتعرّف إلى صديقةٍ مؤمنة، فيوهمها أنّه أصلح القوم وأشدّهم تمسّكاً بدينه، غرضه من ذلك أن ينال حظّاً من جسمها المُشتهى، وخلال صلاةٍ تجمعه مع هذه الصديقة تراه مديرة المدرسة التي يعمل بها والتي ترى في الإيمان تُهمة، فيقع الرجل في حيرةٍ بين نقيضي الإيمان والإلحاد منبعه غواية امرأتين تقعان على نقيضي الحسن والقباحة.
في المجموعة قصصٌ سبعة هي: لا أحد سيضحك، التفاحة الذهب للشهوة الخالدة، لعبة الأوتوستوب، المُسامرة، ليُخلِ الموتى القدامى المكان للموتى الجدد، الدكتور هافيل بعد عشرين سنة، إدوارد والرب. وكلها قصص رائعة مع أفضلية-برأيي- للقصة الأولى والثالثة والأخيرة، ويتّضح بالفعل أنّ (كونديرا) كتبها في فتراتٍ متباعدة.
يتخلّى الكاتب (الفرنسي/التشيكي) عن قالب الرواية ولايلتزم أيضاً بقالب النوفيلا (الرواية القصيرة)، لذلك أعتقدُ أن كلمة (رواية) على غلاف المجموعة سببه حيرة الدار في الانتماء الأدبي لهذا العمل، وهو شيءٍ سيتكرر كثيراً في أعمال كونديرا.
ليس من شيمي أن أكون عنصرياً أو طائفيّاً، ولا أحبّ العنصريين جملةً، ولكنّني في الوقت ذاته لا يمكنني أن أبرّئ (كونديرا) من هذه التهمة (أقلّها في كتابه هذا)، فعند القراءة المجهرية للنصّوص رأيتُ أنّ الرجل أطلق على شخصياته البغيضة أسماءً يهودية صريحة. شخصيّاً لا يعنيني دين (كونديرا) المشهور بيساريته ولا حتى نزعاته الصوفية والتأمليّة إن وجدت إلا ما تبدى منها في أعماله الأدبية، كغرامياته المرحة التي يبدو أنّها جاءت متأثرةً بالرأي العام السائد عن الشخصية اليهودية في حقبة كتابة هذه النصوص منتصف القرن الماضي.
القارئ (لميلان كونديرا) لن يتوقف عند عملٍ واحد له ، ستجرّه مصيدة الكاتب إلى باقي أعماله ككتاب الضحك والنسيان، وكائن لا تُحتمل خفته، والخلود وغيرها، من خلالها استطاع الكاتب أن يقدّم نفسه ككاتبٍ ساخرٍ وفيلسوف وسياسي، متفرّداً بأسلوبه الجميل الذي يطبع كل أعماله، فهو يبدأ من لاجدوى الشخصيات والحوار، ثم وبخطى تدريجية يطرح الكاتب فكرته من خلال الحوار المتصاعد الوتيرة والساخر في معظمه ليبدأ القارئ بطرح الأسئلة على نفسه والتفكير ببعض مسلماته وهو غرض الكاتب وزبدة رسالته.
صدر الكتاب عن المركز الثقافي العربي / المغرب، ويقع في 271 صفحة من القطع المتوسط، وهو عمل يبعث على البهجة ويلهم القرّاء في فهم الحياة على طريقة الكاتب وسخريته المريرة.
- غراميات مرحة
- ميلان كونديرا
- المركز الثقافي العربي