مراجعة رواية “أصل” للكاتب “دان براون”
لايمكنني أن أصدّق أنّ كاتباً يستطيع أن يبقيني متحمّساً ومشدوداً إلى حبكةٍ واحدة تمتد إلى أكثر من 450 صفحة!!
(دان براون) وحده يمكنه ذلك، بل وأكثر، فمع تشويقة هذا الكاتب أؤكد لك أنّك لن تستطيع الإسترخاء، وستتنهّد عميقاً وأنت تقلّب الأفكار التي يحاول أن يدسّها في رأسك طولاً وعرضاً، ثمّ تنسلّ إلى فراشك وكلك أملٌ أن ينشغل ذهنك بشيءٍ آخر، أو أن تنام دون أن يقتحم عليك (روبرت لانغدون) منامك البهيج.
وحصل أنّني قرأتُ روايات (دان براون) الست السابقة عند صدور نسختها العربية وقرّرت وقتها -وبدون حماسٍ مستعجل- أنّه أفضل من يكتب حبكةً مشوقة، ولا يبدو لي الآن وقد فرغت من روايته الأخيرة (الأصل) أنّني سأتراجع عن قراري، وقد أسديتُ لنفسي خدمةً كبيرة أنّني سجلتُ بعض النقاط حول الرواية خلال قراءتها وها أنَذا أشارككم إيّاها بكثيرٍ من البرّ والإنصاف:
أولاً وقبل كل شيء لا أتوقع أنكم تأخذون معلوماتكم من الروايات، لأنّ نتيجة قراءة هذه الرواية ستكون كارثيّة لمن يصدّق كل المعلومات الواردة فيها ويأخذها على محمل الجدّ والحقيقة، (دان براون) لا يخرج عن كونه كاتباً روائيّاً وليس باحثاً أو مؤرخاً أكاديمياً، هذه قاعدة يجب أن يضعها كلّ القرّاء في الحسبان، وأمّا محاولات الكاتب للتأثير على عقل القارئ بتأكيده على صدق المعلومات فهي مجرد أكذوبة ومخادعة يجب ألا تنطلي على القارئ الناضج، ومن الناحية الأخلاقية لا يمكن محاسبة الكاتب أو ملامته طالما أنّه يضع على غلاف عمله كلمة (رواية).
تحكي الرواية قصة العالم الثري (إدموند كيرش) الذي ساقته بحوثه الطويلة لاكتشاف أجوبةٍ عن الأسئلة المعلقة منذ فجر البشرية وهي (من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟)، فيقرر هذا العالم اطلاع ثلاثة من رؤوس الأديان الكُبرى في العالم على خلاصة بحوثه وهم (السيد الفضل ممثلاً عن المسلمين، والأسقف فالديسبينو عن المسيحية، ويهودا كوفيس عن اليهودية)، يشعر الثلاثة بعد اطلاعهم على فيديو البحث بأنّ معتقداتهم الدينية باتت هشّة أمام هذا الاكتشاف الصارخ، فيقرر أحدهم (وهو الأسقف فالديسبينو) طمس الحقيقة ودفنها في أرضها، فيخطط لقتل الرجال الثلاثة (الفضل ويهودا وكيرش) كي لا يتسرّب هذا الفيديو إلى العالم، هذا ما يوهمنا به الكاتب في الثلثين الأولين من الرواية، لنكتشف في الثلث الأخير مخططاً آخراً لم نكن نتوقعه.
يحمل (روبرت لانغدون) الشخصيّة الدائمة في الروايات الخمس الأخيرة لدان براون، يحمل على عاتقه مسؤولية نشر هذا الفيديو كنوعٍ من التكريم والإنصاف لصديقه وتلميذه العالم الفذ (ادموند كيرش) الذي قُتل على مسرحٍ مفترض في متحف (غوغنهام) ليلة كشفه عن خبايا بحثه الطويل، يعينه على ذلك (أمبرا فيدال) مديرة المتحف وخطيبة ولي العهد الإسباني.
هنا يبدأ (أكشن) الرواية في التصاعد، وتستمر بنا المطاردات والملاحقات وكشف اللبوس الغامض من سلسلة من الرموز وأبيات الشعر الملغوزة زمناً طويلاً من عمر الرواية، ويبرز هنا دور (وينستون) وهو العقل الإلكتروني والذكاء الصناعي الذي عمل عليه (كيرش) زمناً طويلاً ليصير منافساً لمئات العقول البشرية في البحث والتحليل، والذي سيستعين به (روبرت لانغدون) كثيراً في رحلة بحثه عن كلمة السر التي من خلالها سيستطيع إطلاق الفيديو إلى العالم الذي حبس أنفاسه وهو ينتظر معرفة هذا المحتوى الذي قيل أنّه سيزعزع الفكر الديني عند البشرية جمعاء.
المُلاحظ في الرواية أنّ كل شخصياتها عالية التخصّص في مجالها ولا نجد فيها شخصاً دون أن يكون خبيراً أو قائداً، مثل :
- الملك الإسباني الذي لمّح الكاتب إلى علاقة غير سويّة تربطه مع (الأسقف فالديسبينو) (ص 433).
- أميرال البحرية المتقاعد (لويس أفيلا) المضحوك على شيبته والذي تم استدراجه ليكون قاتلاً مأجوراً.
- ولي العهد الإسباني (جوليان) الضعيف الشخصية والذي تتهاوى إرادته أمام حبّ حياته (أمبرا فيدال).
- الحارسان الملكيان (دياز وفونسيكا) وقائدهم (دييغو غارزا)، و(سوريش بهالا) مدير الأمن الإلكتروني في القصر الملكي، ثم العجوز الظريف الأب (يواكيم بينيا) رئيس كهنة كاتدرائية (ساغرادا فاميليا)، وغيرهم كثير.
منذ الصفحة الثانية من الرواية يشدنا الكاتب لمعرفة محتوى البحث الذي سيعرضه (ادموند كيرش) ضمن فيديو يُبث حول العالم، والذي سيُجيب من خلاله عن أسئلة بداية الخليقة، وهو بحث – بحسب قول الكاتب- سيقوّض الإيمان بشكلٍ عام، وسيضع المؤمنين في خانةِ الخجل من أنفسهم (!!). وأنا هنا أختار أن لا أكشف لكم محتوى هذا الفيديو لما في ذلك من حرقٍ كامل لروح الرواية ولبّها، والخوض في البحث المُشار إليه سيُخرجنا عن طبيعة المراجعة الأدبية إلى تحليلٍ علمي في الفيزياء والكيمياء و النظر في مقادير طبخ الحساء الكوني لإنتاج خليّةٍ بدائية.
رواية (الأصل) هي رواية الحبكة القوية بلا منازع، وأرى أنّ أمهرَ الكتّابِ صغارٌ أمام حبكات (دان براون) المتماسكة، لكنّه في أعماله الأخيرة بدأ يكرر نفسه، فدائماً هناك الباحث الجهبذ الذي يملك الحقيقة، ووراءه شخصٌ غامضٌ يلاحقه لقطع حلقومه بغرض اسكاته قبل كشف الحقيقة الغائبة عن العالم، وسنجد أيضاً الحسناء الجميلة التي تساند العلم والعلماء معرضةً حسنها البديع للتهديد فداءً لنشر الحق إلى العالم، وطبعاً منطلق رواياته كلها حوادث القتل والانتحار.
الرواية تمجّد الإلحاد واللاأدرية واللادينية (دون أن تفرّق بينهم)، ويدس الكاتب السمّ في الدسم فيما يتعلق بالأديان مُسطّحاً كلّ النظريات التي تتعارض مع موقف الرواية الإلحادي، لكنّ الكاتب سذّج روايته بنتائج الفيديو إياه، ما جعل معظم منظري الفكر الإلحادي يبدون حماساً فاتراً تجاهها، وخاصةً أنّ العلم القويم يتعارض مع ما ذكره (إدموند كيرش) في بحثه.
اعتاد الكاتب أن يقدّم معلوماتٍ دقيقة حول تاريخ الأمكنة وعمارة بعض بيئات أعماله الروائية، لكنها معلومات تتداخل بسرعة مع أحداث الرواية وتتماهى معها بما يخدم غرض الحبكة، ما يُفقد المعلومة مصداقيتها وقيمتها، كما أنّه يقدّم شروحاً وتعاليلاً لبعض الأحداث العلمية أو الفنيّة لم يُحدّث عنها أصحابها الفعليين ما يؤكد من جديد ضحالة المعلومة وخلو الرواية من الأمانة العلمية.
لن يجد محبي الإقتباسات شيئاً كثيراً يعجبهم، فالرواية رواية أحداث متصاعدة فحسب، ورغم أبعادها الفلسفية والدينية لا أنكر أنها تحتوي على بعض الأسئلة العميقة والمقارنات الجادة التي يمكن نقاشها والوقوف عندها.
هذه الرواية مليئة بالأحداث والتفاصيل، لذلك فهي سريعة التفلّت، كأنها تجلس متأهّبة وركبتاها تحتها، إذا غفل عنها القارئ لحظةً واحدة هربت منه، ما يدعوه لإعادة قراءة الفصل من البداية، وهذا ما جعلني أتخلى عن عادتي في القراءة بأكثر من كتابٍ في اليوم الواحد لأتفرّغ لها وحدها.
صدرت الرواية عن الدار العربية للعلوم ناشرون ، وتقع في 462 صفحة من القطع الكبير، وهي رواية متينة الحبك، مُحكمة الأحداث، ورغم ذلك لا أعتقد أنها أفضل أعمال (دان براون).
- أصل
- دان براون
- الدار العربية للعلوم ناشرون