رحيل العوسج

مراجعة رواية “رحيل العوسج” للروائية “أحلام برجس أبو عساف”

العوسج نباتٌ عنيد، ولا يعنيه قحط الأرض، بل يزيده قوةً وصبرًا، وهكذا هي (خولة) بطلة الرواية، فعندما أينع فكرها النضالي تمسَّكت به ووثبت تتخطى قيود الأهل والمجتمع، وعزمت على أن تقدِّم روحها قربانًا لأرضها المقدَّسة، ولكنَّها صادفت حبَّ حياتها قُبيل عملها الفدائي، فهل تصغي إلى نداء القلب وتتراجع عن كفاحها المسلح، أم تبقى وفيَّةً لنداء الوطن والحرية؟
إنَّ رواية (رحيل العوسج) تسبر لنا أغوار القلب الأنثوي المناضل وتكشف أسراره، وقد قرأت الرواية باهتمامٍ وتعلق منذ صفحتها الأولى وكتبت حولها النقاط التالية:


تعيد الكاتبة (أحلام برجس أبو عساف) أدب المقاومة إلى الواجهة من جديد، ففي روايتها (رحيل العوسج) تكاشف قرّاءها حول أحقيّة المرأة في أن تكون ندّ الرجل وشريكه في النضال والتضحية، وطالما أنّ الوطن يملكه الجميع فمن حقّ (الجميع) الدفاع عنه دون تمييّز بين جنسٍ أو طبقة تفرضها عادات المجتمع البالية.


تحكي الرواية قصة (خولة) التي تحلم منذ طفولتها بعملٍ بطوليٍّ تهديه لوطنها فهي سَميّةُ البطلة (خولة بنت الأزور) وبيتها بيت نضالٍ وعلم، وقد فتحت عينيها على فضاء السماء حيث أبوها الطيار (هايل أبو عثمان) الذي سطّر أمجاداً من التضحية والبطولة في مقارعة العدوّ الإسرائيلي وهي لم تكف عن لبس خوذته أو (البيريه الحمراء) مع كلّ عودةٍ له فرحاً بانتصاراته واستلهاماً لانتصارٍ جديد تكون هي وحدها بطلته وفي داخل العمق الصهيوني.

جوبهت أحلام (خولة) بالرفض القاطع، وهنا تبدع الكاتبة في إبراز سمة التأرجح النفسي عند والدها (هايل أبو عثمان) الذي يتمنطق في محاضراته وخلال مشاركاته في الندوات حول نضال المرأة ودورها لتكون شريكة الرجل في صناعة الحرية والتحرير، لكنّه عند عودته إلى البيت يبدّل أفكاره كما يبدّل ثيابه ويمنع ابنته (خولة) من أي انتسابٍ لحزبٍ مقاوم أو المشاركة بأي إنجازٍ بطولي كان يحمّس النّسوة للمشاركة فيه.


اقتباس: “لايعرف هايل كيف أصبح كنبيذ تخلّل غطاء دنّه فتحوّل إلى خل، سعى جاهداً لكي يربي أولاده التربية “الإسبرطية”، كان يردّد على مسمع الأصدقاء: (القساوة ككور النّار، ندخل به الزجاج ثم نخرجه فنصنع به الأشياء الجميلة)”.


إنّ هذا التناقض نقل (خولة) إلى وحشةٍ وغربة وهي بين أهلها ما جعلها تحسم أمرها وتقرر الرحيل عنهم إلى حيث تجد نفسها وتحقق هدفها الأسمى في الحياة، في هذه الأثناء تعرّفها صديقتها (هاجر) على أبيها المسؤول الحزبي الرفيع والذي يتفهّم منطقها الثوري المتأجّج، فيضمّها إلى فرقة الفدائيين حيث تُقدم خلال شهوراً عدّة على تدريباتٍ رياضيّةٍ وعسكريةٍ مكثّفة، وهي تحرز تقدّماً سريعاً يثبت للجميع اندفاعها الصادق في المهمّة البطولية التي ستوكل إليها عمّا قريب، وقد تركت أهلها في حزنٍ وفراغٍ قاتلٍ تنهشهم ألسن النسوة الماهرات في النميمة وسوء الظنّ.


خلال فترة التدريبات تتعرّف (خولة) إلى مسؤول الإستطلاع (عابد)، وهو شاعرٌ رقيقٌ متقلّبٌ في تفكيره وانتماءاته الفكرية، ووصوله إلى هنا يعدّ نصراً لرهافة حسّه وذكائه. كان الحبّ الجارف الذي ملأ قلبيهما مغلّفٌ ببرودٍ مصطنع، فلا أمل لحبٍ ينمو في قلبين مصيرهما الفرقة السريعة حيث يسري تيّار حياتهما في اتجاهٍ غير الزواج والاستقرار.


اقتباس: “كان كلّ شيءٍ فيها يئنّ بصخبٍ ويتصارع، فهل ترمي سلاح فتنتها، تهرب معه ولاتعود من حيث أتت؟ تجسّدت تلك الفكرة أمامها ونضجت، وها قد اتّكأت أغصانها من ثقل حملها، فعابد لايمتّ لكل الذين التقتهم بأيّ صلة، إنّه مختلف تماماً، فهو صلب، يتكلّم بعذوبة، كما أنّه يتحدّث عن الحرب كالآخرين”.


خلال أيام التدريب تُلقي (خولة) خطبةً مرتجلة في الإذاعة الداخليّة للمعسكر، فتشي عن موهبة صارمة في شحذ النفوس والتأثير بالسامعين ما يدفع مسؤول المعسكر لاختيارها لتكون عضواً في فريق (الإرشاد والتوجيه السياسي)، فهل تستجيب (خولة) لنداء القلب وتوافق على تغيير مسار مخططها الأزلي وتعدل عن فكرة الاستشهاد أم تبقى وفيّةً لحلمٍ طالما راودها في سبيل الوطن والحرية؟ هذا ما تجلوه لنا الصفحات الأخيرة من الرواية.


اقتباس: “قالت خولة في ميكرفون الإذاعة: بقي العرب يبتهلون مدّةً طويلةً لله أن يزيل العدو وقد صلى البعض من أجل ذلك، وماذا رأينا؟ نحن من بقينا على حالنا وقد ازدادت غطرسته وخساسته وظلمه، نحن هنا لنقول: لا للدعاء إذا لم يرافقه صوت السلاح، لا للدعاء إن لم نمزجه بالتضحية فداءً للوطن ونرخص له الغالي والنفيس، فالشهادة هي قمة الإيمان ونحن هنا كلنا مؤمنون، فما الحياة إلا وقفة عز”.


تقدّم الكاتبة (أحلام برجس أبو عساف) عملاً أدبياً يمكن تصنيفه على أنّه سهلٌ ممتنع، فرغم انتماء شخصيات الرواية إلى واقعنا لكنّها تقدمهم لنا جميعاً أبطالاً في فكرهم، قساةً في ملامحهم، ولا تنقصهم الصلابة في الرأي والإرادة، وهذا يعزز الفكر المقاوم الذي تدور حول أطيافه أحداث الرواية، وطالما شبّهتهم (بنبات العوسج) العنيد، الذي إن غالبه قحط الحياة لا يركن للاستسلام، بل يتبع الرطوبة والحياة أينما كانت ولايترك نفسه للهمل واليباس.


وهكذا، وبعد روايتها الأولى (ظمأ امرأة) تبرهن الروائية السورية (أحلام برجس أبو عساف) لانحيازها لقضايا المرأة وأحقيتها في المساواة، هذه المرة ليست المساواة في الحقوق، بل في الواجبات تجاه الوطن وحريّته.


صدرت الرواية عام 2018 عن دار ظمأ، وتقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، وقد باشرت الدار بإصدار الطبعة الثانية من الرواية هذا العام.

  • رحيل العوسج
  • أحلام برجس أبو عساف
  • دار ظمأ