مراجعة كتاب “سيكولوجية الجماهير” للمفكر “غوستاف لوبون”
في حركة الجماهير وتفكيرها ألغازٌ غامضة، فترى أفعالهم في أغلب الأحيان تخرج عن المنطق، ويتبنّون أفكاراً لم يكن للفرد الواحد أن يأخذ بها لو نوقش بمعزلٍ عن الجماعة، إنّ دراسة (سيكولوجية الجماهير) كانت ولازالت علماً بعيداً عن فلاسفة العرب قديمهم وحديثهم، وربما من عهد (ابن خلدون) لم نجد دراسةً جادة تتفحّص مناحي الجماهير في تفكيرها وطرق التأثير بها وتعديل سلوكها أو السيطرة عليها، كتاب (سيكولوجية الجماهير) مرجعٌ هام في هذا العلم، ورغم قدم الكتاب نسبيّاً لكنّ الأفكار الواردة فيه تنطبق على جماهير القرن الواحد والعشرين ما يثبت أنّ عادات الجماهير واحدة أينما كانوا وتنتقل من جيلٍ إلى جيل، وقد قرأت الكتاب بتمهّل وكتبت وفنّدت حوله النقاط التالية:
يدور في خلد العقلاء سؤالٌ ملحٌّ وهو: كيف يمكن للقائد الديكتاتور أن يستملك روح الجماهير ويسيطر على عقولها ويجعلهم أشبه بالعبيد الأذلاء، يستلب إنسانيتهم ويمحق كرامتهم وهم لايكفّون يهتفون باسمه ويتباكون عند مرور موكبه، وخلاصة أحلامهم البعيدة أن ينعموا برؤية طلعته السمجة؟ يجيب لوبون عن هذا السؤال بحقيقةٍ لا خلاف عليها وهي أنّ الديكتاتور يخاطب شعبه بالشعارات الجوفاء والعبارات المدغدغة للعواطف بدلاً من الأفكار المنطقية والواقعية، ذلك أنّ الجماهير أشبه بالمنَوّم مغناطيسيّاً، يمتلكون وحدة ذهنية واحدة تتحرك بشكلٍ لاواعي، وأذكر هنا أنّ القرآن الكريم أشار إلى هذه الفكرة في معرض حديثه عن الأسلوب الذي استعبد فيه فرعون قومه، ففي سورة (الزخرف) أخبرنا الله تعالى أنّ فرعون ((استخفّ قومه فأطاعوه))، وهذا النهج مشى عليه كل مصاصي دماء الشعوب من القادة والزعماء الذين حكموا بلادهم بالحديد والنّار.
يبقى السؤال: هل يدرك الأفراد أن قائدهم هذا خبيث النفس، فاسد الرأي، غير نظيف اليد؟ الواقع أنّ كلّ فرد يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك وربّما يشتم قائده في سرّه ، لكنّه إذا ما انخرط مع الجماعة أعاده ظمأه للطاعة إلى أخلاق القطيع وترنّم بأمجاد القائد.
إنّ الحس بالمسؤولية والخوف من العقاب القانوني يحجر الفرد عن إتيان الخطأ، لكنّه إذا ما انضوى تحت جناح الجماعة اكتسب قوتها وهيبتها، ولذلك نجد أنّ الفرد يفعل مع الجماعة ما لايفعله وحده، وكلما زاد عدد الجمهور كلما هبطوا في سلم الحضارة وفعلوا ما تمليه عليهم غريزتهم الحيوانية، يفسّر هذا تدمير المتظاهرين للمرافق العامة والإضرار بالطبيعة أو حالات التحرّش الجماعي.
وفي الجماهير الغفيرة يتساوى العالم والجاهل ويتبنّون عندئذٍ الأفكار الأكثر بلاهة، أذكر أنّني كلما ناقشت شخصاً بأحداث الحادي عشر من أيلول يُبدي له عدم قناعته بالسيناريو الأمريكي، لكنّه مع الجماعة يرجع فيتبنى التفسير الأميركي للحادثة الشهيرة.
كلما زادت الفكرة بلاهة كلما صدّقها الجمهور، وهذا ما يفسّر انتشار الإشاعات والخرافات والأساطير، مثال: في بداية الأزمة السورية ادّعى الإعلام أنّ قناة الجزيرة القطرية تقيم مجسّمات لأماكن وساحات شهيرة في سورية، ورغم بلاهة الفكرة لكنّ الكثير من الناس اقتنعوا بها على أنّ كل شخص بمفرده كان يرفض هذا التحليل بالمطلق، لكنه لا يرعوي أن ينخرط مع الجماعة في تصديقها، ولم تضحك الجماهير على الفكرة إلا بعد أن تراجع عنها الإعلام وكفّ عن ذكرها.
تنتقل الجماهير من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، ألا ترون معي المشجعين على مدرّجات الملاعب يهتفون بإسم لاعبهم الأثير ويرفعون صوره لكنّه إذا ما أخفق في تسديدةٍ سهلة أو أضاع فرصةً سانحة كالوا عليه الشتائم التي يندى لها الجبين، وهم قبل قليل كانوا يقبّلون صوره المرفوعة.
تُقاد الجماهير بالعواطف والدين، وهذا ما يدفع أزلام الديكتاتور بتمثيله على أنّه إله أو أنّه القائد المُلهم، أو أمير المؤمنين وخليفة الله على الأرض، ويذكر (لوبون) إثباتاً لأهميّة الدين عند الشعوب قصة العدمي الذي كان يعبد القدّيسين والصالحين ، لكن عندما زاره أحد الملاحدة وأقنعه بفكرة الإلحاد أحرق العدمي صور القديسين وصار يعبد الفلاسفة الملحدين.
لهيبة القادة والأشخاص وتأثيرها على الجمهور ما يشبهها في الأعمال الأدبية الكبيرة والخوف من انتقادها، ولا أنكر أنّني جزءٌ من هذا الجمهور، فطالما أردتُ انتقاد أعمالاً أدبية هي من كلاسيكيات الأدب العالمي لكنّي اعترف بقلة جرأتي على انتقاد أعمالٍ لها هيبتها عند الناس، كذلك لا يجرؤ ناقد موسيقي على القول بأنّ المطربة الكبيرة (فلانة) نشّذت أو خرجت عن المقام في أغنيتها تلك، فذلك كفيلٌ بتعرّض الجماهير له وإهانته رغم أنّ كلامه قد يكون مبنيٌّ على تحليلٍ موضوعيّ دقيق.
يشير (غوستاف لوبون) في كتابه إلى نقاطٍ كثيرة مثل: دور التكرار في التأثير في الرأي العام وهذا ما يفسّر لنا أهمية الإعلانات، والتقليد في انتشار الموضة بين الشعوب، كما يركز كثيراً على دور العرق في تقسيم الجمهور ووفاءها لبعضها واخلاصها لدعم فكرة واستمرار العرق الواحد.تساءلت عند نهاية الكتاب هل سيغيّر (لوبون) شيئاً من أفكاره لو أنّه عاش في زمننا هذا حيث بات أصحاب صفحات (الفايسبوك) يقودون الرأي العام الجماهيري، وهم في أغلبهم يعززون التفاهة في منشوراتهم التي لا تنمّ عن علمٍ أو رقيٍّ فكري ! أعتقد أنّه على الأرجح سيحمّل السلطات مسؤولية ترك قيادات (الميديا) تزرع السخف والإنحلال بين النّاس لأنّ بقاء الديكتاتور على كرسي الحكم يتطلب شعباً مغيّب العقل منحلّ الرأي والإرادة.
- سيكولوجية الجماهير
- غوستاف لوبون
- دار الساقي