مراجعة رواية “الصبية والليل” للروائي الفرنسي “غيوم ميسو”
أعتقد أنّني اقتنيت الرواية منذ اليوم الأول لطرح نسختها العربية في المكتبات، ثمّ مرّت أيام وقرأها غيري كثير وكلهم لم يشجعوني لقراءتها، بل بعضهم أشار أنه لم يكمل فصلها الأول، وهنا تبادر لذهني تساؤل: هل يمكن لغيوم ميسو أن يفقد بريقه بهذه السرعة؟ لكنّي -رغم احترامي البالغ لأصدقائي القرّاء- لم أعمل بمشورتهم وجعلت من هذه الرواية فاتحة قراءات العام الجديد، وهي – برأيي الشخصي- خير ما افتتحتُ به عامي، هي بالفعل رواية مشوّقة وقد قرأتها بانسجامٍ شديدٍ مع الشخصيات والأحداث، وكتبت حولها نقاطاً أشارككم بها:
في عمله الجديد يقدّم (غيوم ميسو) روايةً بوليسية مبتكرة نوعاً ما، وناحية الابتكار فيها أنّه يخبرنا كل شيء منذ صفحاتها الأولى دون أن تفقد الرواية تشويقها للقارئ وجذبه لمواصلة القراءة، حيث يدور موضوع الرواية حول جريمة؛ الضحية فيها هو (ألكسيس كليمان)، والقاتل هو بطل الرواية (توماس)، وسبب الجريمة هو إرضاءٌ للجميلة اللعوب (فينيكا)، ومكان الجثة هو جدار (الجمنازيوم)، كل هذا نعرفه منذ الصفحات الأولى، وهنا يتساءل القارئ: إذا كانت هذه البداية، فماذا ينتظرنا في ال (370) صفحة باقية من الرواية؟
تعود بداية الجريمة إلى شتاءٍ قارسٍ بعيد في تسعينيات القرن الماضي وفي (الليسيه/سكنٍ جامعيٍ فرنسي) حيث زار (توماس) حبيبته (فينيكا) في غرفتها وهناك وجدها عليلةً تجهش بالبكاء وفي يدها اختبار حملٍ يشير إلى أنّها حامل، فصفعته تلك الحقيقة المرّة وعرف أنّ هذا الحمل ما هو إلا ثمرة اللقاءات الحميميّة الوادعة بينها وبين أستاذ الفلسفة (ألكسيس)، وفي هذه اللحظة فقدَ عقله التفكير السوي فهرع مدفوعاً بهوجاء العاطفة المسحوقة إلى غرفة أستاذ الفلسفة وهناك وبعد عراكٍ طويل ناوله بطاقة رحلةٍ إلى الآخرة دون عودة، ولم يجد إلا أن يرمي جثته في جدارٍ قيد البناء في مبنى (الجمنازيوم)، وعندما عاد إلى (فينيكا) ليبشّرها أنّه انتقم لها، لم يجدها، وحتى بعد عشرات السنين من البحث الدؤوب لم يجدها أحد !
بعد هذه الأحداث بخمسةٍ وعشرين عاماً يتلقى توماس دعوةً من (الليسيه) ليحتفل مع إدارته وطلابه القدامى بوضع أساس بناءٍ جديد، لكن (توماس) لم يكن ليكترث بتلك الدعوة لولا جملة واحدة وردت ضمن هذه البطاقة جعلته ينتفض ويسافر لحضور الحفل على عجل، فالبناء الجديد سيقوم على أنقاض (الجمنازيوم)، وتوماس منذ خمسةٍ وعشرين عاماً قتل رجلاً ودفنه ضمن جدار هذا (الجمنازيوم) وهدمُه عمّا قريب سيكشف الجثة أو ما تبقى منها، وسيكشف معها كل الأدلة التي تشير إليه كمرتكبٍ للجريمة، وهذا يعني أنّه سيقضي بقية عمره وراء القضبان، فهل استطاع توماس التخلص من هذه الورطة !
لا أكشف لكم سرّاً ولا أحرق لكم الأحداث إن أخبرتكم أنه خلال المُضي في الرواية ستتبدّى لنا أحداثٌ مريعة، منها أنّ جدار الجمنازيوم سيحتوي على جثة أخرى غير جثة (ألكسيس)، وأنّ أستاذ الفلسفة هذا بريءٌ من التهمة التي قُتِل لأجلها، وأنّ معظم الجرائم الحاصلة كانت بدافع حبٍّ شاذٍ بين الطلاب، وأنّ أهالي الطلاب أكثر جرماً من أبنائهم وأكثر شرّاً ودهاءً ومهارةً في التملّص من عدالة القضاء، أكرّر لكم أنّني لم أكشف لكم مستوراً فيما سبق، ففي تفاصيل الرواية مكاشفاتٌ تدحض سابقها وكلما ترسّخت عندنا قناعة خرجت علينا دلائل تغيّر المواقف والقناعات كلها لنبدأ من جديد.
نهاية الرواية جميلة، ويقدّم الكاتب خلال الفصول الأخيرة سيناريوهات متعدّدة تحيّر القارئ وتجعله يستمر في المطالعة ليعرف أي قفلة سيختارها الكاتب، والواقع أنّ تعدّد هذه السيناريوهات ستحيل القارئ وبدون وعيٍ مباشرٍ منه إلى محققٍ خاصٍ مستقلٍ له فرضياته ونظرياته حول الجريمة، الجميل جداً أنّ الكاتب وفي آخر صفحةٍ من الرواية يعزل نفسه عن الراوي ويقدّم فرضيته هو الآخر حول سلسلة الجرائم ويخيّر قرّاءه اختيار النظرية الأقرب لقناعاتهم، وهذه بادرة أدبيّة تدفعنا للوقوف باحترام والتصفيق للكاتب لهذا الفتح الأدبيّ البديع.
يؤخذ على الكاتب إكثاره من الشخصيات غير الفاعلة، فمثلاً في الصفحات (43,44,45)، يسمّي لنا شخصياتٍ كثيرة ويرخي نفسه على الأريكة وهو يعدد مثالبها وصفاتها وماضيها وحاضرها لنعتقد أنّ لهذه الشخصيات دوراً مهمّاً في الرواية، ثم نكتشف لاحقاً أنّ لا دور لهم بالمطلق، وذكرهم جاء لإطالة العمل وزيادة صفحاته.
يؤخذ على الكاتب أيضاً إكثاره من مقارنة شخصياته بشخصياتٍ تلفزيونية وأبطالٍ لأفلامٍ ومسلسلاتٍ غربية ربّما لم يشاهدها كل القرّاء، وقد أكثر من هذه التركيبة رغم أنّه يمتلك مقدرةً واضحة لتقديم شخصياته دون الحاجة لهذه المقارنات التي بلغت حدّ الإملال.
صدرت الرواية عن المركز الثقافي العربي ودار هاشيت أنطوان/نوفل ، وأجد أن هذه الدار لا تحترم المترجمين الذين يتعاقدون معها في كونها لاتنوّه بأسمائهم على غلافها، فرغم إبداع المترجمة (نتالي الخوري) واتقانها لعملها لا نجد اسمها على الغلاف الخارجي للعمل، بل وأكثر من هذا؛ تذكر الدار على موقعها الالكتروني أنّ الرواية مترجمة عن الفرنسية مع إغفالٍ تامٍ لاسم المترجمة !!
تقع الرواية في 370 صفحة من القطع الكبير، وهي جميلة بالمجمل وأنصح بها دون أن أدّعي أنها أجمل أعمال غيوم ميسو.
- الصبية والليل
- غيوم ميسو
- المركز الثقافي العربي وهاشيت أنطوان نوفل