مراجعة رواية “ذات الشعر الأحمر” للروائي التركي “أورهان باموق”
بدايةً أبشّركم أنّني أنوي حرق أحداث الرواية بالجملة وأكشف مستورها وأعرّيه تماماً أمامكم، فمن جدول الرواية ووضعها على قائمة كتبه المعدّة للقراءة؛ عليه أن ينحّي هذا المنشور جانباً على أن يعود إليه لاحقاً بعد إتمام الرواية، ويشاطرنا رأيه فيما قرأ، وإنّي أراهن بضميرٍ مرتاح أن لا أحداً سيترك المنشور لهذا السبب، كون المراجعات الكاشفة للأحداث تشكل إغراءً لا يمكن دفعه عند محبي الروايات.
بي طبعٌ أحبّه، وهو أنّني إذا أحببت روايةً ما، أمنح نفسي فرصةً قد تتجاوز الأسبوعين قبل أن أكتب عنها أو أنصح بها الأخلاء، والغرض من ذلك أنّني قد أنبهر بثيمةٍ ما اختارها الكاتب، أو تروق لي لغته وتراكيبه فأكتب مراجعتي تحت تأثير ذاك الانبهار، ثم بعد انقضاء وقتٍ واكتشافي لأعمالٍ أكثر مَلاحةً أتراجع عن رأيي الأول وما في ذلك من إحراجٍ أمام أصدقائي الذين قرؤوا الرواية أخذاً بقولي وعملاً بمشورتي فوجدوها أدنى سويةً ممّا توقعوه لها، وربّما يدفعهم ذلك إلى -العد للعشرة- قبل أن يشاوروني بعملٍ أو يطلبوا مراجعتي له، فالتزمت بما أنا عليه التزاماً صارماً كي لا أخرج إلى النّاس برأيٍ قابلٍ للتعديل.
هذه الرواية أعجبتني جداً، وهذا يعني – عملاً بالقاعدة التي ألزمت نفسي بها – أنّه من الحري بي الانتظار زمناً قليلاً قبل إبداء الرأي بها، لكنّني اليوم ربطت حجراً في ساق هذه القاعدة ورميتها في البحر الذي أمامي، لأن الرواية التي أنهيتها الآن لا تستحق الانتظار ولا أتوقع أن أُصاب في عقلي فأمنحها بعد حينٍ درجةً أقل ممّا أعطيه لها الآن.
رواية (ذات الشعر الأحمر) لصاحب نوبل 2006 التركي (أورهان باموق)، قرأتها في يومين وسجلت حولها الملاحظات التالية:
_ يتميّز أدب أورهان باموق بالسرد السلس والحوار المفيد وأركّز كثيراً على الحوار المفيد، فكثيرٌ من الكتّاب يعتمدون في أعمالهم على السرد جاعلين من الحوار شيئاً متمّماً له وفيه بعض الحشو للإطالة، أورهان باموق غيرهم، ففي حواره داعمٌ قويٌ للسرد وهو يعتمد عليه كثيراً في السير بأحداث الرواية ودفعها إلى الأمام على عكس الكثير من الكتّاب الذين يجرون بالأحداث عن طريق السرد فقط.
_ شخصيات الرواية قليلة جداً قياساً لحجمها وهذا يعني أن الكاتب يورّط نفسه في مهمّة صعبة جدّاً وهي تقديم الشخصيات بطريقة تفاعلية جاذبة، لأن القرّاء عادةً يتركون العمل الأدبي إذا لم يجدوا فيه شخصيةً محبّبة واحدة على الأقل، فهل نجح الكاتب في ذلك؟ : بالطبع، وسيجعلنا نحزن ونقيم سرادق العزاء على وداعهم مع صفحة الرواية الأخيرة..
_ توصيف المكان كان محترفاً، وهذا شيء لاحظته في معظم أو كل الأعمال التي قرأتها لباموق، هو يعتمد كثيراً على ذكريات المكان، وكل شخصياته مرتبطة بأمكنة ولها ذكريات مع الساحات والأبنية والأشجار والقرى، في هذه الرواية ستبرز لنا وبقوة قرية (أونجوران) وبئر الماء المحفور فيها والذي سيكون وحده مدار الأحداث كلها.
_ (جيم) شابٌ نشأ مع أمّه بعدما شرد أبوه عنهما لغير سببٍ واضح، فنشأ يحقد على أبيه وتملّكته عقدةً عصيّةً على الحل هي (عقدة أوديب)، ولأجل لقمة العيش صار يعمل مساعداً (للاوسطة محمود) المتخصص في حفر الأبيار، وفي عشية كل يومٍ بعد الانتهاء من العمل اعتاد الفتى(جيم) أن يذهب إلى مسرحٍ متنقل في قرية (أونجوران) وهناك تعرّف إلى امرأةٍ ذات شعرٍ أحمر تجاوز عمرها ضعف عمره، وفي تلك الصائفة وبفعل دماء الشباب التي تغلي في عروقهما دعته إلى سريرها فاستجاب لغريزته واستجاب لها وعاونهم على ذلك العزلة والعميّة عن النّاس، فلم يجدا ما يحجرهما عن فعل كل شيء ففعلا ما تفكرون به الآن.
_ في أحد الأيام وعندما كان (جيم) يجذب حبل السطل المليء بالأتربة والحجارة، سقط الدلو من يده وهوى على رأس (الأوسطة محمود) فظنّ أن رأسه فُتحت وتناثر دماغه في قعر الجب، فانطلق هارباً إلى المدينة ولم يطلب معونةً لاخراج الرجل خشية أن يُحاكم بتهمة القتل العمد، ثم تمرّ السنوات ويتخرّج من الجامعة ويؤسس شركةً ناجحةً للمقاولات ويتزوج فتاةً حسنة المظهر والمخبر ويعيش بسعادةٍ واضحة وقد نسي قصة البئر وزالت من ذاكرته مؤقتاً.
_ يقضي (جيم) حياةً سعيدة يقضيها بين العمل والسفر إلى المتاحف للإطلاع على مخطوطات (الشاهنامة) تلك الملحمة التي يحبها، وهنّا في وسط الرواية ينتاب القارئ شيءٌ كثيرٌ من الملل، كون الكاتب يغرقنا بتحليلاتٍ ومقارناتٍ سخيّة بين أسطورتين شهيرتين هما (الملك أوديب) و (الشاهنامة) وكلاهما تتناولان علاقة الابن بأبيه وتنتهي دوماً بقتل الأب لإبنه بعد اقتتالٍ مرير بين أصحاب الدم الواحد.
بعد ثلاثين سنة، تُعرض أراضٍ للبيع في (اونجوران)، يكتشف (جيم) أنها ذاتها التي حفر بها بئراً ذات يوم، فتداعت له ذكرياتٍ مريرة ويقرر الذهاب لزيارة البئر، هناك يلتقي بذات الشعر الأحمر وقد ربا عمرها على الستين، وتخبره أن له ابناً منها اسمه (أنور) هو ثمرة ذاك اللقاء العاصف في ذاك اليوم الصائف، وإنّ (أنور) يحقد على أبيه لأنه تركهم دون سببٍ واضح ولا يريد رؤيته ولا اللقاء به.
يدّل أهالي أونجوران (جيم) على شابٍ اسمه (سرهاد) ليأخذه لموقع البئر ، عند البئر يُظهر (سرهاد) حقداً دفيناً ل(جيم) وبعد حوارٍ عزيز بين الرجلين لا يخرج إلا بشق الأنفس، يكتشف (جيم) أنّ (سرهاد) هو ابنه بالفعل وهو ينوي قتله ورميه في غيابة الجبّ انتقاماً (للأوسطة محمود) الذي أنقذه الأهالي يومها، فيتعارك الرجلان بالأيدي ويتقافزان حول البئر، وتخيلوا هنا حجم الإسقاط النفسي عند القارئ وهو يتخيل عراك الرجلين عند البئر مع ما حكاه الكاتب من عراك الأبن وابنه في الأسطورتين الشرقية (الشاهنامة) والغربية (الملك أوديب) وحلله كثيراً خلال الرواية، ثم ينتهي العراك بسقوط (جيم) إلى قرارة البئر ويلفظ أنفاسه في المكان الذي ترك فيه معلمه قبل ثلاثين سنة، ومنذ ذلك الوقت لم يدرِ (جيم) أنّه كان يحفر قبره بيديه، ثمّ تقفل الرواية أحداثها على خاتمةٍ تأخذ بتلابيب القارئ الذي لشدة انبهاره بها سيظل يحدّث بها من حوله حتى يقسموا عليه أن يفتح حديثاً غيره.
_صدرت الرواية عن مكتبة نوبل / دار المدى في 281 صفحة من القطع المتوسط، وهي الآن – وبتجرّدٍ صادق- أضعها على رأس أفضل كتابٍ قرأته لعام 2019.
- ذات الشعر الأحمر
- أورهان باموق
- دار المدى