1984

مراجعة رواية “1984” للروائي “جورج أورويل”

هل تعرف بلداً يُلقي القبض على أحد مواطنيه تحت أي ذريعة أو لمجرّد كلمةٍ قالها، ويُعذّب في سجنه دون محاكمة؟ ثمّ لا يخرج منه أبداً..؟

  • هل تعرف بلداً كلُّ مواطنٍ فيه متّهمٌ وعميلٌ ومُدانٌ حتى يثبت العكس؟
  • هل تعرف دولةً هي دولة الحزب الواحد الذي يفرض نهجه وإيديوليجيته السقيمة المبنيّة على البقاء على الوضع الراهن، والحيلولة دون أي حراكٍ أو تغييرٍ لا يضمن بقاءه واستمراريته؟
  • هل تعرف حزباً تأخذ سياسته شكل التعبئة الجماهيرية ليغسل أدمغتهم؛ فيكونوا من حوله قطيعاً مُطيعاً أو هم (كالأنعام أو أضلّ سبيلا)؟
  • هل تعرف بلداً تحكمه عصبة لصوص يسرقون كل البلد، ولا يرمون للنّاس إلا الفتات، ويعتبرون ذلك منّةً عليهم وفضلاً ؟؟
  • إن كنت تعرف مثل هذا البلد فهذا يعني أحد شيئين: إمّا أنّك تعيش في بلدٍ عربي، أو تعرف دولة (أوقيانيا) التي تدور فيها أحداث هذه الرواية..
  • في رواية (1984) يحدّثنا (أورويل) عن الأنظمة الشمولية، عن الدولة القمعية التي تحكم الناس بالحديد والنار بطشاً وتنكيلاً حتى يكفر المواطن بوطنه، وتجعل الموت أمنيته الوحيدة دون أن يتيقّن إن كان في هذا الموت تخفيفاً من مصيبته أو زيادةً فيها..

ولقد قرأت هذه الرواية وأنا أوافق الكاتب في كل ما يقول، ولو صمتَ لرأيتُ في صمته بياناً يتمّم كلامه، لا لشيءٍ إلا لأنّ لديّ أصدقاءٌ عاشوا في مثل (دولة أوقيانيا)، تلك الدولة التي لا تسمع فيها إلا صلصلة السلاح، وطقطقة الرقاب البريئة الهشّة تحت البساطير العسكرية الظالمة، تلك الدولة البغيضة المُهلكة، السوداء حتى الأعماق، نهارها كليلها مظلمٌ، بهيمٌ، مستغلقٌ، موحشٌ، مقفرٌ، شديد الحلك لا تسطع فيها شمس العدل ولا يبشّر ليلها بأفول..

وكنتُ كلما قرأت فصلاً من هذه الرواية تنعقد في صدري عَجاجةٌ ثائرةٌ على كل دكتاتورٍ في هذا العالم، وأشعر في حومة قلبي كيّةً كأنّها رصاصةٌ ملتهبة دافعتُها وغالبتُها حتى أنهيتُ الرواية وكتبت لكم حولها النقاط الآتية:🚀تدور أحداث الرواية في دولة (أوقيانيا) التي يحكمها حزبٌ واحد هو حزب انجسوك (تسمية مشتقة من انجليزي/اشتراكي) ورجلٌ واحد هو (الأخ الكبير) الذي تملأ صوره القميئة شوارع البلد وساحاته ومتنزهاته. وتنتشر في هذه الدولة شاشات الرصد والمراقبة التي تراقب الناس في بيوتهم ومحلاتهم ودوائرهم الرسمية، ولا تُستثنى من ذلك الحمامات ولا حتى غرف النوم؛ ليكون النّاس بأجمعهم مُراقبين بتحركاتهم وهمساتهم وحتى دقائق تفاصيل وجوههم عند الابتسام والتكدّر.

تُشرف الدولة على تصرّفات الناس وأعمالهم ودقائق حياتهم اليومية وتوجّههم بما يضمن مصالح (الأخ الكبير) وزبانيته، فتوزّع لهم أردأ طعامٍ وبأدنى كمّيةٍ بحيث لايشبعون ولايُشرفون على الموت. حتى أنّهم يمنعون عنهم العلاقة الحميمة إلا إذا كان الهدف منها إنجاب طفلٍ يخدم الحزب وقيادة الحزب.

تنطلق من شاشات الرصد صباح مساء أغنياتٍ (وطنية) لكنها لا تذكر الوطن ولا تمجّده، بل تكتفي بذكر الحاكم وحزبه، وجيشه الذي يقود حروباً وهميةً لا وجود لها؛ فالأخبار تصمّ آذان النّاس بإنجازات الجيش وانتصاراته على جبهة العدو، ثمّ نكتشف أنّها حروباً هزلية لاوجود لها، وأنّ (الأخ الكبير) باع القضية منذ عشرات السنين، ومع القضية باع الأرض والشعب وقبض أثمانهم بالعملة الصعبة.

ليوهم (الأخ الكبير) شعبه بأنّه مكافحٌ مناضلٌ صامد، كان يقصف بلاده بشتى أنواع القذائف ويوزّع الموت بالمجّان على شعبه، ثمّ يدّعي اعلامه الكاذب أنّ هذه هي قذائف العدو الحاقد. ثمّ أمر (الاخ الكبير) مراكز بحوثه العلمية باختراع قذائف ضخمة يتجاوز حجمها البراميل الكبيرة والهدف منها تحقيق أكبر عددٍ من الموتى من شعبه إرضاءً لحلفائه من أعداء البلاد.

(وينستون سميث) رجلٌ في التاسعة والثلاثين من العمر، يعمل في دائرة السجلات في وزارة الحقيقة. ولايزال في قلبه شفقةٌ على وطنه وشعبه، يكره (الأخ الكبير) وحزبه والطغمة الحاكمة، يتعرّف بالصدفة إلى جوليا ذات الستة عشر ربيعاً، وتنشأ بينهما علاقة صداقةٍ قوية، يزيدها قوةً معارضتهم الشديدة لنظام الحكم وحلمهما بزواله. كان (وينستون وجوليا) يرتحلان فُرادى ليلتقوا في الريف البعيد حيث لا شاشات مراقبة ولا أجهزة تنصّت تراقب نزواتهم بين الحشائش الطويلة. ثمّ يحصل أن يتعرفا إلى (شارنغتون) العجوز، وهو صاحب محل متهالك له عِليّةٌ وضيعة، اتفقا معه على استئجارها لأنها من الأماكن النادرة في البلاد التي لا تحوي شاسة رصد، وهنا صارا يتبادلان الحبّ بحريةٍ دون تدخلاتٍ من (منظمة الجواسيس) أو (شرطة الفكر).

تتوسّع دائرتهم الضيّقة بتعرّفهما إلى (أوبراين) وهو أحد أعضاء الحزب الداخلي الذي يشاطرهما عدائه للحزب رغم عيشة البذخ التي يرفل بها، ويهدي (لوينستون) كتاباً ضخماً كتبه (غولدشتاين) الحكيم المعارض الذي يقيم خارج البلاد ويدير تنظيماً سريّاً اسمه (الأخوة) المناهض للسلطة الحاكمة والداعي للتغيير والديمقراطية. ويدعوه للإنضمام لهذا التنظيم للعمل معاً على قلب نظام الحكم.

الثلث الأخير من الرواية يحتوي فصولاً يقرؤها (وينستون) على أسماع (جوليا) من كتاب (غولدشتاين)، وهي فصولٌ تتحدث عن أنظمة الحكم وإن الجماهير لن تدرك أبداً حقيقة كونها مضطهدة. حتى أن عمليات غسيل الدماغ المتكررة لهم جيلاً بعد جيل تمنحهم ثقةً عمياء بجلادهم، ويهتفون بإسمه من فرط سعادتهم بكونه يرمي لهم فتات طعامه..

ينكشف أمر وينستون ويصدر أمر تصفيته، لكن الحزب الحاكم يرفض فكرة إعدامه قبل أن يحبّ (الأخ الكبير)، إذ يجب عليه أن يموت وقلبه يعتمل بحبّ الحاكم وعشق الحزب وعليه أن يصدّق أنّ (2+2=5) طالما أن الحزب قال ذلك وأمر به، فتبدأ هنا عمليات غسيل الدماغ وسلسلة لاتنقطع من تعذيبٍ ممنهج في سجونٍ ومعتقلاتٍ (تدمر) وتقضي على الأعصاب والأجساد والعقول. فهل ينجح الحزب بغسل دماغ (وينستون) وينقله من حالة نقص الولاء إلى الولاء الكامل؟ وهل يتدخّل (تنظيم الأخوة) لانقاذه من المعتقل وتهريبه خارج البلاد ؟؟ أسئلةٌ أترك الرواية لتجيبكم عنها..

منذ بداية الرواية وكل الشخصيات تحذّر بعضها من الغرفة رقم (101) وهي الغرفة التي لا يعرف أحدٌ ما يدور بها، لكن الجميع يعرف أنها المكان الوحيد الذي سيتمنى المرء فيه الموت ولايناله، بل أكثر من ذلك سيتمنى لو كان أهله وأطفاله مكانه ويخرج هو حرّاً طليقاً. كل هذا التشويق الذي حرص عليه الكاتب منذ الفصول الأولى من الرواية يدفع القارئ لحماسٍ شديدٍ ليعرف ماذا خلف الأبواب المغلقة للغرفة (101)، والواقع أنّني استخدمتُ خيالاً خصباً لأحزر ما يدور هناك قبل الوصول إليه، ولم أقف في ذهني على حالة تعذيبٍ يطلب المرء الموت خلالها. لكن ما ذكره الكاتب من فصول التعذيب والتنكيل هناك جعلني أقتنع بأنّ الموت أرحم بكثير، وشكرتُ الله أنّ حكّام بلاد التخلّف لا يقرؤون؛ لأنهم لو قرؤوا هذا الفصل فإنّهم بالطبع سيفرضون هذا الدرس الفظيع على مناهج التعذيب في سجونهم.

يكرر الكاتب كثيراً وصف البشر بالحيوانات (وجهه كالقرد، شكلها كالخنفساء، له ذقن تيس… إلخ) وهو تصرّفٌ مقصود من الكاتب لإيحاء القارى بعيشة البهائم التي يحياها هؤلاء المساكين، وقد سبق للكاتب (جورج اورويل) أن كتب رواية (حديقة الحيوانات) التي جعل كل أبطالها من حيوانات الحظيرة التي تثور على الظلم والطغيان، وهي أيضاً من أبرع أعماله وواحدة من أجمل كلاسيكيات الأدب العالمي.

إن أفضل الكتب هي تلك التي تقول لك ماتعرفه بالفعل، وربّما تعيشه.. لكنك لا تستطيع قوله -أو لا تجرؤ على قوله- وقد تلمح صورة (أخيك الكبير) في شارعك الذي تقطن فيه وفوق رأسك في المكتب التي تعمل به وأنت من تحته تلعنه، وربّما شاركت (كأمثالك من أبناء شعب دولة أوقيانيا) في مسيراتٍ عفوية رغماً عنك إثباتاً لخالص الولاء والامتنان بأنّه لا يزال يحكمك وسيبقى. ولاتجد فسحةً من أملٍ بعيد إلا في أمثال هذه الكتب التي يجدر أن يقرأها وينصح بها كلّ ذي ضمير محبّ لوطنه وشعبه.

اطلعت على ترجماتٍ كثيرة واضطررت لتغير النسخة أكثر من مرّة، فالرواية قويّة من حيث المعنى والمبنى ولا أريد لمترجمٍ غرّ أن ينقص لي بضعفه متعة القراءة، فوجدتُ نسخة إلكترونية جيدة بطبعة المركز الثقافي العربي / المترجم أنور الشامي فاعتمدتُها وتركت غيرها وهي تقع في 351 صفحة من القطع المتوسط، أما نسختي الورقية فصادرة عن دار التنوع الثقافي وتقع في 414 صفحة من القطع المتوسط وبترجمة سلام حسن.

أمنح الرواية خمسة نجوم مستحقة، وهي بمثابة صفعة على وجه كل دكتاتورٍ أرعن يرى نفسه ولفيفه اللصيق به فوق الناس ووجودهم أهمّ من الوطن، وهم ليسوا إلا أشباحاً ممسوخة تخشى مصيراً أسوداً لا مفرّ منه.

  • 1984
  • جورج أورويل
  • المركز الثقافي العربي