مراجعة رواية 10 دقائق و 38 ثانية في هذا العالم الغريب للروائية التركية أليف شافاك
في كل مرة أقرأ روايةً لأليف شافاك أبقى بعدها معلّق القلم، لا أدري كيف أزيح عن نفسي عسر الكتابة عن أعمالها الأدبية الثريّة، إذ أجد نفسي قليل الزاد في إيفائها حقها في قراءةٍ مُوجَزةٍ أو مراجعةٍ سريعة، ولكنّني أحاول.
تدخل أليف شافاك في هذه الرواية البيوت الرخيصة وتندّ عنها تفاصيل دقيقة عن حياتهم ومآكلهم ومناكحهم، لكنها لا تشهّر بهم، بل تحكي عنهم حكاية المغلوب المقهور الذي يعاني انسداد سبل الفرج أمامه. واذا كانت أغلب القصص والروايات تنتهي بموت الشخصية الرئيسية إلا أن شافاك جعلت موت البطلة (ليلى التكيلا) هو مبتدأ الرواية وانطلاقها، وفي هذا مفارقةٌ جميلة لا يُحسنها إلا الأديب الماهر.
تبدأ الرواية و(ليلى التكيلا) مطعونةٌ نازفة، مرميةٌ في الزبالة، مذهولةٌ في أمر اقتراب الأجل، ولاتملك من الحياة إلا عشر دقائق و 38 ثانية هي الفرصة الأخيرة، والخيط الدقيق الذي يوصلها بهذه الدنيا قبل أن ينصرم حبل الوريد عن ضخّ الدم والحياة ويكفّ الدماغ عن العمل وتخمد حرارتها المتبقية.
خلال هذه المدة يُفرّغ دماغها الذكريات المحشودة فيه فتسترجع معاطب الماضي وزلاته ويسوؤها فكرة أنّها كانت المرأة التي سار الزمان في غير صالحها، فقد تعرّضت وهي طفلةٌ لاعتداء عمها عليها الذي ما انفكّ يرسم الدوائر على بطنها وسُرّتها وهي مرغمةٌ على الاستلقاء بجواره، وابنه البليد يرقد إلى جوارهم لايسمع بكاءها المكبوت وكأنّه في سباتٍ شتويّ طويل.
يهدّد العم ابنة أخيه بالعقاب والتكذيب إن باحت لأحدٍ بأسرار الليل الطويل لكنها تحاملت على نفسها وشكت عمها لأهلها الذين حاولوا التستّر على الفضيحة بتزويجها من ابن عمها البليد، وفي الليلة الموعودة حزمت أمرها وحقيبتها وانطلقت إلى استانبول وما معها من المال إلا اليسير.
في استانبول استغلّ قليلو المروءة جسدها فخدّروها وقدموها بضاعةً جاهزةً لطالبي المتعة، ثمّ صار يبتاعها ماخورٌ إثر ماخور حتى استجاب جسدها للرذيلة واستمرأت اللذة الحرام غُلبةً لاطواعيةً، وصارت تنصاعُ لأهواء الدافعين ونزواتهم وشهواتهم المشتعلة بغير خاطرٍ ورضا.
لليلى بطلة الحكاية أصدقاءٌ خمسة هم: (سنان) المخرّب ابن قريتها، والصومالية (جميلة) المولودة لأبٍ مسلم وأم مسيحية، واللبنانية (زينب 122) القصيرة والمشوّهة تشوّهاً بائناً، والشابة التركية (حُميراء) التي يزوّجها أبوها القاسي من شريكه في العمل لتربي له أطفاله الصغار، و(تالان) الشاب الذي كانت ليلى تطرب لصوته الجميل وهو يغني في الورشة قبالة غرفتها، ثمّ حال بينهما زمنٌ طويل ليلتقيا مرةً أخرى وقد رضخ أخيراً لصرخة الأنثى التي تعتمل بداخله فقلب جنسه إلى امرأة وشرع يعمل فتاة ليلٍ تتنقّل بين الأحضان في بيوت اللذة.
تُفرد الكاتبة فصلاً خاصّاً لكل فردٍ من هذه الصُحبة الغريبة وتحكي كيف حولتهم منابت الكره والتنمّر التي عاشوها في طفولتهم إلى شخصياتٍ مشوّهة من الداخل كما هي مشوّهة من الخارج، لكنّ هذا التشوّه لم يصل إلى قلوبهم البيضاء النقيّة التي لم تنسلخ عنها الرحمة والرأفة حتى في حقّ الحيوانات والظلمة وعديمي الضمائر.
في الرواية فصلٌ مؤثرٌ جدّاً، هو عندما حنّت ليلى المسكينة إلى أهلها واتصلت بهم هاتفيّاً لتسمع صوت والداها وتعتذر لهم؛ هنا تنصدم المسكينة بردّ فعل الأهل وكيف اتهموها بدناءة الأخلاق وبأنّها فتاةٌ خائبة تستجلب العار لأهلها، فأغلقت الهاتف وقد أحزنها أن ينضمّ أهلها إلى زمرة النّاس الطاعنين في شرفهما الموهوم.
أقول: كيف فات أولائك الأهل أنّ (ليلى) ضحيتهم التي ظلموها أربع مرات: مرةً عندما سكتوا عن اعتداء عمها عليها رضوخاً لهيبته، ومرةً عندما أرادوا التكتم على الفضيحة بتزويجها بمن لاتريد، ومرّةً باتهامها بأنّ هروبها كان نقيصةً وفضيحةً لا سكوتهم وتهاونهم بحق العم، ومرّةً كيف لم يغفروا لها هروبها ومسامحتها عليه حتى انتهى بها المطاف إلى بغيٍّ مذبوحةٍ في المزابل.
يستطيع القارئ الماهر أن يتكهّن بخاتمة الرواية، نعم..هذا صحيحٌ في حال لم يكن الكاتب (أليف شافاك)، لقد توقعتُ منذ البداية أن يصل أحدٌ إلى (ليلى) قبل أن تلفظ نفسها الأخير ويُسعفها إلى أقرب مشفى ثمّ يُقبل أهلها إليها مشفوعين بالندم وتنتهي الرواية بالحب والوئام، لكنّها ماتت وانتهى بها المطاف في المشرحة ثمّ مقبرة الغرباء، هنا يحرص أصدقاؤها الخمسة الأوفياء على نبش قبرها ليلاً ودفنها في مدفنٍ يليق بها وبإنسانيّتها، فتوقعتُ بحدسي أن يُخرجوها مسلوبة العينين والكليتين كما يُفعل عادةً في الأموات الذين لايُطالب بهم أحد، لكن الكاتبة تقدّم مآلاً غير متوقعاً وهو بالفعل خير قفلةٍ ومفاجأةٍ تُختَتَم بها الرواية.
في الرواية هنّاتٌ بسيطة لم أتوقع أن تقع الكاتبة بها على حرفيتها، أكرر: هي هنّاتٌ بسيطة لاتصل إلى مرتبة السقطة الأدبية لكنّها تُسيء إلى متعة واقعية السرد والأحداث، من مثل: الصدفة في مقابلة ليلى لتالان في منطقةٍ بعيدة تزورها ليلى لأول مرّة ومعروفٌ أن مدينة استانبول كبيرةٌ إلى درجة أنّ نسبة حصول هذه المصادفة قد تصل إلى واحد من مليون!! الصدفة العجيبة الأخرى جاءت في الصفحة نفسها (ص 266) وهي عندما قرأت ليلى برجها في الصحيفة اليومية المرمية على الطاولة فتجد أنّ برجها يحدّثها عن ماضيها وحاضرها وصيرورة حياتها ! هذا كثير يا أليف !!
ليس عدلاً ما كتبه بعض القرّاء والنقّاد أنّ الكاتبة تُقحم الدين والجنس في روايتها إقحاماً مبتذلاً، لا أجد ما يسوّغ هذه التهمة، فسبك الأحداث وتواليها والوقوف عليها جاء خادماً للعمل الأدبي، وما تقصّه الكاتبة في عملها له نظيره في الواقع وأبطال العمل يمثلون شريحةً كدّها التعب والإرهاق رغم أسفي على هذه الشريحة التي تمخر في بحرٍ تتلاطمه أمواج الخطيئة والرذيلة.
صدرت النسخة العربية عن دار الآداب عام 2020، وتقع في 478 صفحة من القطع المتوسط، وستبقى هذه الرواية في ذهن قارئها مدةً من الزمن، وأظنّها تتربع على عرش أعمال أليف شافاك وتتنافس على القمة مع عملها الأشهر (قواعد العشق الأربعون).
- 10 دقائق و 38 ثانية في هذا العالم الغريب
- أليف شافاك
- دار الآداب