مراجعة رواية “موت صغير” للروائي “محمد حسن علوان”
في الحياة موتٌ لكنه لاينقل المرء من الدنيا إلى الآخرة، بل يثب بروحه إلى السماء، يُشعره وكأنّه وليٌّ من أصفياء الله، يشرح صدره بالعرفانيات، ويغسل شوائب نفسه بالكشوف حتى تصير روحه صافيةً كاللآلئ الكريمة المكنونة في الأصداف..هو الحبّ الإلهي أو (موتٌ صغير) كما يسميه المتصوّفة.
والعاشق كالمصباح المنطفئ، فإن كان حبّه إلهيّاً فإنّه يضيء بلا زيت، وشرارة النار منه لا تحرق القلب بل تحييه، فإذا استحكم هذا الحبّ في حواشي النفس؛ خرج منها شعاعاً صافياً من المواجيد والفتوح تدفع عن صاحبها النسيان فيذكره الناس والتاريخ وأحوال المحبين.. كالشيخ الأكبر (محيي الدين بن عربي) الذي تتناول هذه الرواية سيرته وحكاية أسفاره.
ولقد قرأت من الرواية فصلاً؛ فوجدتُ أنّ الكاتب سلك مذهباً في اللغة يعجبني، وجعل يذكر خوانق المتصوّفة وزواياهم كمن كتبها وهو يخالطهم في مجالس ذكرهم، وما أوسع معرفتي بهذه المجالس، فآثرت قراءتها في وقت السّحر عندما يمشي الوقت ببطءٍ وتتقلّبُ النّفس في لذةٍ روحية لا تشاكلها ساعات النهار؛ فأنهيتها في أيامٍ وقد تسلل سحرها إليّ رويداً حتى ظننتُ أنّها ستزيح رواياتٍ عظيمة كنتُ أصنّفها في مرتبة من أجمل ما قرأت، وقد اتفق عندي خلال قراءتها السّرور والحبّ والجمال، وذهلتُ بها عن غيرها من الروايات حتى إذا ما أنهيتها حفظتها في قلبي ومكتبتي وهرعت إلى أوراقي أكتب لكم حولها النقاط الآتية:
استهلّ الكاتب روايته مع الطفل الفطن (محيي الدين) الذي أبق عن سلطة أبيه ورفض أن يكون نسخةً عنه ككاتبٍ في بلاط الملك (ابن مردنيش)، وابتداءً من ولادة (محيي الدين) في مرسية ووفاته في دمشق بعد خمسةٍ وسبعين عاماً يقص لنا الكاتب رحلة (ابن عربي) في الحب والكشف والتأمّل ويعرّفنا به صبيّاً، وشابّاً عاشقاً، وزوجاً وأباً، وشيخاً منزوياً عن النّاس معتكفاً في المقابر.
في رحلة (ابن عربي) من الأندلس إلى دمشق يطوف بنا الكاتب أصقاعاً ومدناً عدّة، فالرحلة هنا رحلة تصوّفٍ واستكشافٍ معاً، نمرّ خلالها بفاس ومراكش وتلمسان والقاهرة ومكة ودمشق، ثم مصر من جديد وبغداد، ليحطّ به المقام أخيراً في دمشق التي تنتهي عندها رحلته الروحانية الثرية التي نتعرّف من خلالها على دولٍ وخلافاتٍ متحالفة ومتناحرة وموقفها جميعاً من الحركة الصوفية ومشايخها، دون أن يطغى التاريخ والسياسة على الأدب وجماليته وشاعريته.
يلتقي (ابن عربي) في رحلته العرفانية بأعلام التصوّف في زمانه كالسُبتي وزاهر الأصفهاني والكومي والغوث والسهروردي، ويعلق الكاتب قرّاءه وجدانيّاً بأصدقاء (ابن عربي) كالحريري والخياط، وزوجاته مريم وفاطمة وصفية، وخدّامه سلوم وسودكين وبدر الحبشي، وأولاده كعماد الدين وزينب، ومعشوقته (نظام) التي حجزه عن الزواج بها أنها وتده الثالث، وقد أتقن الكاتب رسم ملامح شخصياتهم وجعلها متفاعلة مع الحدث لكنها غير مُحدثةٍ له، مع بقاء شخصية (ابن عربي) مستأثرةً بالمساحة الأوفى من حركة السرد.
لعبت مرضعته ومربّيته (فاطمة بنت المثنّى) دوراً جوهرياً في سيرة (ابن عربي) رغم قلة ما يذكرها الرواي، فهي أوّل من تنبّأ بنزعته الفطرية إلى التصوّف، وميله إلى التأمّل، وابتعاده عن مسالك أبيه في محاباة السلاطين والوقوف عند أبوابهم، وهي أوّل من أمرته بأن يطهّر قلبه وأن يضرب في الأرض باحثاً عن أوتاده الأربعة ليتمّ له بملاقاتهم طهور القلب وصفاء الروح استعداداً للواردات الإلهيّة والتنزّلات الروحانية التي يومي إليها بقصائده وأشعاره.
لم يغفل الكاتب عن إلقاء الضوء على الوقائع التاريخيّة والسمات السياسيّة التي اعتملت في المدن التي عاش بها (محيي الدين ابن عربي) منذ طفولته وحتى موته في دمشق، فيكشف لنا الكاتب كيف انتهى صراع الموحّدين مع المرابطين، وانتصار الموحّدين وحكمهم الأندلس، وما نشب بعد ذلك من تغيراتٍ في حياة الناس ومعاشهم، ثمّ يبذل الكاتب جهداً واضحاً ليضع قرّاءه على واقع المجتمعات التي نزل بها (الشيخ الأكبر) دارساً ومدرّساً، ورسم لنا نسيجها الثقافي والاجتماعي بدقةٍ تخلق عند القارئ وعياً بتاريخ المنطقة وزمانها.
في خطٍّ موازٍ لمسار الرواية، يحكي الكاتب قصة رحلةٍ من نوعٍ آخر، حيث يقتفي أثر مخطوطةٍ لابن عربي ويروي لنا كيف تناقلتها الأيدي من أذربيجان عام 1212م مروراً بحلب ودمشق والكرك وسمرقند وأماسيا واستانبول، ثم دمشق من جديد لتصل إلى حماة في ثمانينيّات القرن الماضي حيث تنجو المخطوطة من اضطراباتٍ اجتماعيةٍ وعسكرية كانت تغوص بها البلاد آنذاك، لتحط رحالها أخيراً في بيروت عام 2012، حيث تشتريها امرأةٌ عارفةٌ بقيمتها من لاجئٍ سوريٍّ ينشد السلامة والرزق.
لا أعتبر الرواية وثيقةً تاريخيةً عن حياة (ابن عربي) لأنّ المُتخيّل فيها يطغى على الحقيقة، أو أنّ الكاتب أحصى المادة التاريخية المكتوبة وفكّكها ثم أعاد تركيبها روائياً، أمّا إذا كان الهدف من الرواية -غير المتعة والتشويق- أن تكون صلة وصلٍ للقارئ مع زمانٍ ولّى ليلتذّ بروحانياته ورشاقة لغته ويتعرّف إلى مقوّمات حياته الإجتماعية والسياسية والدينية فإنّ الرواية وصلت بذلك إلى غايتها وحقّقت مُرادها.
تُعلي الرواية من شأن الحركات الصوفية واتباعها، وتنتصر دوماً لعاطفة الحب، وقد آنستُ عند الكاتب رغبةً بالقول أنّ (ابن عربي) حاول انتاج مجتمعٍ جديدٍ معافى روحيّاً، فإن لم يستطع أن يفعل ذلك بيده فقد فعله بقلبه ومداد قلمه من خلال آثاره الباقية إلى يومنا كفصوص الحِكم، وترجمان الأشواق والفتوحات المكية.
في لغة الرواية روحٌ تتنفّس لم أجدها في كثيرٍ من النّتاج الروائي الحديث، حيث استخدم الكاتب لغةً تتناغم والجو الصوفي للرواية، وسيواجه القارئ مصطلحاتٍ خاصةً بالتصوّف وكشوف العارفين، كالحضرة والحال والجذبة والفناء، لكنّه لايوغل في استخدامها بحيث لايفهم أبعادها إلا المتبحّر، ويحرص الكاتب على تحييد شطحات (ابن عربي) الجدلية وينشغل عن ذلك بحياته وملامح تجربته الصوفيّة.
تقع الرواية في اثني عشر سِفراً ومئة فصل، وهي بهذا روايةٌ ضخمة، لكنّ ايقاعها المتزن الذي يجنح إلى السرعة في أغلب فصولها يصون القارئ من مغبّة الملال فيمضي أشواطاً وهو سعيدٌ بها، وهذا أحد أسرار نجاح الرواية وتقبّلها عند القرّاء باختلاف مستوياتهم ومشاربهم.
في نهاية الرواية يطوي الرّحالة جناحيه عن السفر وتأخذ الأيام شيئاً من بصره، ويحاربه رجال الدولة فيمنعونه عن التدريس، فترغمه الظروف الصعبة للعمل أجيراً في أحد بساتين غوطة دمشق، وهناك ومع نسيم الغوطة ورقتها تجري على الرجل ما وضعه الله في الدنيا من سُنن الموت والهلاك فيلقى القدر الذي لا مفرّ منه.. هي نهايةٌ قد لاتصدم القارئ لكنّ تفاصيلها إن لمست عنده قلباً رقيقاً فإنّ ارتعاده في وداع الشيخ الجليل كفيلٌ بأن يستجلب عنده الدمع والأحزان، وكأنما الكاتب (محمد حسن علوان) عندما سطّر فصل الرواية الأخير غمس قصبة قلمه في قلبه المكلوم لا في دواة الحبر.
صمّم (سومر كوكبي) غلافاً لطيف الإشارة للتراث الصوفي، فابن عربي وفي لحظة تأمّلٍ يرمي ببصر عينٍ واحدة نحو السماء رغبةً فيما عند الله، ويغمض الأخرى زاهداً بالدنيا ومافيها، واعتمد المصمّم الفنان بشكلٍ شبه كلي على اللونين الأبيض والأزرق، وهما اللونان الوحيدان اللذان ينطويان على معانٍ من الصفاء والنقاء.
هذا غيضٌ من فيض وسنبلةٌ من بيدر، ويعزّ على الرواية أن تكشف مكتومها من خلال مراجعتي أو مراجعات غيري من القرّاء
وقد نبتت بيني وبين الرواية ألفةً لا أظنها تزول أبداً.. فاعتبرتها أجمل ما قرأت منذ سنوات ومنحتها على موقع Goodreads خمسة نجومٍ كاملة وهذا مني نادر.
صدرت الرواية عن دار الساقي عام 2016، وتقع في 592 صفحة من القطع الكبير، وهي سِفرٌ أدبيٌّ جليل المقام، وروايةٌ مكتملةٌ في كلّ شيء أنصح بقوّة ألاتفوتكم.
- موت صغير
- محمد حسن علوان
- دار الساقي