مدينة الله

مراجعة رواية مدينة الله للروائي الفلسطيني الكبير حسن حميد

التقيتُ -في عامٍ مضى- الكاتب الكبير حسن حميد على هامش معرض الكتاب في دمشق، وسألته يومها وهو يوقّع لي روايته الجديدة (شارع خاتون خانم) عن أحبّ أعماله إلى قلبه، ولم يخامرني شكٌ في أنّه سيختار رواية (جسر بنات يعقوب) التي أحسبها من خيرة الأعمال الروائيّة العربية (وقد اختيرت ضمن قائمة أهم مئة عمل روائي عربي)، لكنّه أخبرني غير ما توقعت وأشار إلى روايةٍ له كانت في يدي وهي (مدينة الله). فآثرت أن يوقعها بإهداءٍ يوجهه إليكم؛ أعضاء هذه الصفحة #رحلةمع_كتاب.


كتب “حسن حميد” روايته هذه بلهفة العاشق الرّغوب إلى المكان الذي يشعر فيه بالانتماء، مدينة القدس، حيث قدّم من خلال قصة ترتكز أساساً إلى الرسائل وصفاً دقيقاً لمدينة القدس ومعالمها وأجوائها وأهلها المضيافين الذين يستقبلون الزوّار دائماً بذراعين مفتوحتين.


تبدأ الرواية بزيارة الكاتب إلى مركز بريد المدينة وهناك التقى بالموظفة “وديعة عميخاي” التي أفصحت له عن طويّةٍ لزمت كتمها أعواماً عدةً وهي رسائل كتبها الشاب المتعلّم “فلاديمير” إلى أستاذه الذي علمّه اللسان العربي في سان بطرسبورج السيد “إيفان”.
بدأ “فلاديمير” بكتابة هذه الرسائل عُقيب وصوله القدس، ورغم أنّه لم يتلقّ جواباً من معلمه “إيفان” بقي على ديدنه بتوجيه الرسائل إليه، و”وديعة عميخاي” تقرؤها وتحتفظ بها دون وجه حق حتى وخزها ضميرها في خريف العمر فأهدت الكاتب الرسائل.


لاأحد يضاهي الروائي حسن حميد في روعة الوصف، كان هذا رأيي عندما قرأتُ له “جسر بنات يعقوب”، وتعزّز هذا الرأي بعدما قرأت له “الكراكي”، واليوم يصل اقتناعي بمهارة الوصف عنده حدّ اليقين.
إنّ أسلوبه المُغرق بالتفاصيل، والتأتّي على دقائق الأشياء وروائحها وألوانها وملمسها يخلق تأثيراً لا يمكن نسيانه عند القارئ، ويمكنني القول أنّ أسلوبه السردي الوصفي البطيء لايدع أمام القارئ مجالاً للتخيّل؛ لأنّه يضع أمامنا صورة HD التقطتها عدسة مصوّرٍ بارعٍ فنان، وربما لو زرنا القدس يوماً لن نفاجئ بشيءٍ لم يذكره “حميد” في الرواية. وهذا -لعمري- ما يعجز عنه جلّ أرباب الأدب في العالم.


يتحمّل الروائي هنا مسؤوليةً كبيرة، فالرواية -على جدّيتها- ستصل بالقارئ حدّ الاقتناع بحقيقة ما يقرأ، فكيف إذا استعان الكاتب بما يجيزه له فنّ الرواية بأن يذكر أمكنةً غير موجودة، أو أحداثاً من تاريخ المدينة غير حاصلة، أو أقواماً حلّوا بالمدينة دون أن يكون هذا جرى حقاً!!. لاشك أن صدمة القارئ عندئذٍ ستكون فادحةً إن علم أن ما حكاه الراوي عن هذه المدينة الأثيرة ليس إلا عالماً من الخيال المبدع!! (يمكن للقارئ السعي وراء المعلومات الواردة حول تاريخ المدينة وأماكنها بالسّبر عنها في محركات البحث وهذا ما فعلت).


لأنّ الكاتب “حسن حميد” يُحسن الوصف، فمن البديهة أنّه يُحسن استخدام اللغة، ويُحسن وضع المفردات في نصابها، ويمهر باشتقاق نعوتٍ نبيهة. إنّ قدرة هذا الكاتب الضليع على استخدام الألفاظ بطريقةٍ طيّعة أرفَعَ من شأن الرواية مرّةً أخرى وصار للقارئ أهدافٌ ثلاثة: التلذّذ بفصاحة الكاتب، والتمتّع بأجواء القدس الساحرة، ومعرفة ما سيستجدّ من أحداث الرواية..
ثلاث نقاط رئيسة أودّ ذكرها:

  • ترفّع الكاتب عن ذكر الصها..ينة المعتدين، كما نأى بُحسن الرواية على أن يذكر فيها اسم الدولة الناشئة المعتدية (اسرا..ئيل)؛ وعندما تعوزه الحاجة لذكر فجورهم نجده يصطلح لهم اسم (البغّالة)؛ وهذا من بديع ما وجدّته في الرواية.
  • ترفّع الكاتب -أيضاً- عن ذكر قضايا سياسيّة، (المعاهدات والاتفاقيات و و إلخ)، لقد جعلها خالصةً في حبّ المدينة وأهلها الطيّبين وأجوائها الساحرة في اختلاف الفصول، دون أن يغفل عن ذكر الجَور الذي يرزح تحته أهل المدينة جرّاء الاحتلا.ل الغاصب.
  • لا أعرف روايةً كُتبت في حبّ القدس كما هي هذه الرواية، رغم كثرة ما كُتب عن المدينة، وهذا يغفر للكاتب حجم الرواية الضخم، لكنّه يؤثر سلباً على القارئ الغرّ الذي تملّه الروايات الضخام.
    ▪مدينة الله
    ▪حسن حميد
    ▪دار دلمون الجديدة
    ▪الطبعة الأولى 2018، 516 صفحة