عن الرجال والبنادق

مراجعة كتاب عن “الرجال والبنادق” للكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني”

غسان كنفاني الذي ولد في عكا عام 1936 وتنقل بين يافا وجنوب لبنان ودمشق ثم استشهد غيلةً عام 1972 بعدما وُضعت عبوةٌ ناسفةٌ في سيارته، كان ولايزال أديب المقاومة الفلسطينيّة الأول، وربّما هو الأديب الوحيد الذي لانجد له عملاً روائيّاً أو قصصيّاً إلا وكان النضال والمقاومة حديثه ومحوره ومحرّك أحداثه، ولايُستثنى من ذلك رسائله الرائعة المُتبادلة مع الأديبة الكبيرة غادة السمّان، فجاءت أعماله كلها نبضاً للواقع المتحرك، وعلامةً ثوريّةً، وقيمةً تاريخيّةً ونضاليّةً صادقة لايعرفها منظرو الفضائيات، ولا رجال السياسة الذين لا يُحسنون تلقيم البارودة وحتى إن فعلوا ذلك فإنّهم يوجّهون فوّهتها نحو الشرفاء ثمّ يبيعون الوطن بحفنةٍ من الدولارات ينقدهم إيّاها أسيادهم تحت طاولة المفاوضات.

في هذه المجموعة القصصيّة ميزاتٍ فنّيةٍ وأدبيّةٍ قد لايفطنُ لها الكثير من القرّاء الهواة ناهيك عن بعض المتقدّمين في الأدب الذين ما أنزلوا غسان كنفاني مكانته الأدبيّة التي يستحق، وربما عاجله الموت وهو شابٌ يافع وكانت أوطاننا في صدماتٍ متعاقبة جعلتها تذهل عن أمثاله من أبطال البندقية والقلم، وقد سجّلتُ بعض هذه النقاط وتركتُ بعضاً آخر ليُتاح للقراء إعادة قراءة أدب الرجل واكتشاف تميّزه وتفرّده:لا نجد في كل القصص جملةً واحدةً كاملةً ينطقها أحدٌ من اليهود المستعمرين أو من يواطئهم من الجنود الإنجليز، كان الحوار كله مقتصراً على الفدائيين وأهاليهم والمتعاونين معهم، ورغم أنها قصصُ حربٍ سّجال ومقاومةٍ عنيفةٍ وقتال وللعدو فيها نصيب، يلفتنا أنّه ما أعطى العدوّ فرصةً واحدةً للكلام وكأنّه يستنكف أن يُسمعنا شيئاً من كلامهم في خضمّ حديثه عن رجال المقاومة وشبّانها.

سنكتشف في القصص تفاصيلاً دقيقةً عن حياة الفدائيين وبؤس معيشتهم ومعاناتهم، أمّا الجوع – الذي تسمعون عنه – فقد كان بالنسبة لهم همّاً يوميّاً يقارب العادة والروتين.

أصرّ كنفاني في كتابه على التمييز بين الحرب والاشتباك، ففي الحرب قد تهبّ نسمةُ سلامٍ أو هدنةٍ يلتقط فيها المقاتل أنفاسه، وامّا في الاشتباك فإنّ المُقاتل دائماً على بُعد طلقةٍ، أو يمرّ بأعجوبةٍ بين طلقتين، ولايفصله عن الموت إلا خيطٌ دقيقٌ كأنّه الشّعرة.

أحبُّ في أسلوب غسان كنفاني أنّه يعاملُ بعض الجمادات معاملة البشر والأرواح، كالبندقية والمفتاح، وهما رمزان حيّان للمقاومة والوطن؛ فالمرتينة التي تقف على كعبها المهترئ ويتدلى حبل الليف من مؤخرتها تبدو مترهلة كالعجوز، لكنّها لا تلبث أن تصبحَ أليفةً فتيّةً دافئةً وتبعث على الاطمئنان عندما يئزّ رصاصها ويزغرد على رؤوس الطغاة، وأمّا المفتاح رمز البيت والوطن والعودة، يجد المقاتل فيه مايشبه الفأس الصغير الذي يسدّ أبواب بيوتٍ تتقوّضُ وسط شلالٍ من الدخان واللهب.

هذه القصص التسع تبدو كأنّها لوحاتٍ مرسومةٍ بالدم رغم أنّنا لن نجد فيها عزاءً وعويلاً، ليس لأنّ الشهداء لايموتون فحسب، بل لأنّها قصّة رجالٍ سيبقون أحياءً في ذاكرة شرفاء هذا الوطن وسيتكرر أمثالهم كثيراً جيلاً بعد جيل.

صدرت المجموعة القصصيّة عن دار الأبحاث العربية في 131 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت طبعتها الأولى في منتصف القرن الماضي.

  • عن الرجال والبنادق
  • غسان كنفاني
  • دار الأبحاث العربية