مراجعة رواية “سد هارتا” للروائي “هيرمان هسه”
كلنا مثل (سدهارتا) ننشد السعادة ونبحث عنها، نعرف أنّ دروبها وعرة والبحث عن مسالكها ينتهي بالاخفاق المستمر، لكنّ قوةً أزليّةً تحملنا على العمل الدؤوب للبحث عنها، فمن يجدها يدخل في قلبه شيءٌ كإشراق الضحى فلا يدع شيئاً من عروقه إلا ويمسّه، فيشعر وكأنّه استراح من نصب الدنيا ودلف إلى رياض الجمال.
رواية (سدهارتا) تحكي قصة الشاب (سدهارتا) سليل طائفة البراهمة (طبقة هندوسية عليّة)، والذي نازعته نفسه للوصول إلى سكينة الروح والنفس (النيرفانا) فضرب في الأرض قفاراً وجبال وطوى منها مسافاتٍ وأميال حتى أفرط على نفسه وأشرف على أسباب الهلاك، فهل حلّ صاحبنا عقدة الحياة وأفضى إلى أعظم أسرارها ؟؟هيرمان هيسه كاتبٌ سويسري حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1946، وتوفي عام 1962 بعد أن ناهز عمره عن خمسةٍ وثمانين عاماً، وهو ينزع في معظم أعماله إلى التأمّل والعزلة الروحيّة، وقد قرأت عمله الأشهر (سدهارتا) وكتبت حوله الأفكار التالية:
تحكي الرواية قصة الشاب (سدهارتا) الباحث عن السعادة والصفاء الروحي والذهني المطلق، لكنّ انتماؤه إلى طبقة البراهمة واختلاطه بحكمائها والاستماع إلى علومهم والخوض مع أبيه في نقاشاتٍ فلسفيّةٍ عميقة لم يُفضِ إلى شيء، فقرّر الرحيل مع خليله الأقرب إلى نفسه (غوفيندا) إلى النسّاك (السامانيين) فيعرضان عليهما الصحبة والطاعة، فقبلوهما بترحيبٍ ومحبة.
كان عند (سدهارتا) هدفٌ واحد، وهو أن يكون خالياً من العطش لشيء، خالياً من الرغبة، خالياً من الحلم والأماني والفرح والأمل، أن يفارق نفسه وأن يجد السكينة بخلوّ القلب ونكران الذات، لكنّ مسالك (السامانيين) في ترويض النفس لم ترق لسدهارتا وصاحبه فقررا اللحاق بذلك المتنوّر ذائع الصيت والمدعو (بوذا).
يصل الشابان إلى حديقة (بوذا) ويجالسانه ويستمعان إلى حكمه وخلاصة تأملاته ونظرته إلى الحياة وأسباب الوجود فيسعد (غوفيندا) بهذه الدروس ويجد فيها نفسه وانطلاق روحه الشيء الذي لم يجده (سدهارتا) فيقرر الأول المكوث ويعزم الثاني على الرحيل وهكذا يفترق الصديقان ويخطّ كل واحدٍ منهما نهج حياته وصيرورتها.
يلتقي (سدهارتا) في مسيرة حجّه وبحثه عن ذاته بفتاةٍ لعوب تُدعى (كمالا)، وهي لشدة فطنتها وخبرتها في سبر نفوس الرجال ونزواتهم تنزع عن (سدهارتا) لبوس السكينة والوقار فتنهار حصونه أمام جمالها البديع فيتذوّق منها ومعها لذّة الجسد وانعتاق الرغبة المكبوتة، فيسلّمها مفاتيح القلب والعقل ويطلب منها أن يستقرّ عندها لتكون معلمّه ومرشده!.
تنصح (كمالا) عاشقها الجديد بالالتفات إلى التجارة، لأنّ الأجسام البضّة لاتنكشف إلا على وقع الدراهم والذهب، فيلحق (سدهارتا) بالتاجر المخضرم (كمسوامي) ويحترف منه أصول التجارة حتى يصبح سيدها وأغنى أهل البلدة وأوسعهم أملاكاً، لكنّ (سدهارتا) كان يعتمل في صدره قلقٌ مسكوتٌ عنه، وكان يُدرك أن رغبة الجسد والمال العميم هو مسلكٌ لا يُفضي إلى الغاية المفرحة التي يُنشدها، فقرر أن يجد السعادة في شيءٍ جديد… لقد قرر أن يصير أباً..
بعد أن يجرّب صديقنا كلّ دروب السعادة ابتداءً من التأمّل والزهد وترويض النفس والجسد إلى اللذة والمال والولد نقترب من نهاية الرواية التي جاءت مقبولة بعد رحلةٍ طويلةٍ من البحث عن جوهر الحياة.
الرواية رمزية بشكلٍ غير مبالغ، فالنهر والمراكبي وأحلام (سدهارتا) وهو يرضع ثدي صديقه (غوفيندا) والقفص والعصفور، كلها رموزٌ واضحة تخدم النّص وتوسّع الفكرة وتزيدها عُمقاً..
جمال الرواية ينبع من هدوئها وانسياب أحداثها وطريقة طرح الأفكار الفلسفيّة دون أن يخلّ ذلك بالعمل أو أن يجعله موجّهاً لطبقةٍ محددة من القرّاء أو مؤطّراً على أنّه عملٌ فلسفيٌ بحت.
بغض النّظر عن القيمة الأدبيّة للرواية يمكنني أن أخلصها لكم بحديث شريف يختزل كثيراً من معانيها:
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها [أي: عدُّوها قليلة]، فقالوا: أين نحن من النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا [أي: دائما دون انقطاع]، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر [أي: أواصل الصيام يومًا بعد يوم]، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
- سد هارتا
- هيرمان هسه