مراجعة رواية “جمهورية كأن” للروائي “علاء الأسواني”
هذه الرواية بات انتظارها طويلاً، وعندما خرجت إلى النّاس كسرت رتابة الملل وكأنها أصدرت صرخةً أيقظت شيئاً ما في الأدب الحديث، وعندما حجبتها الرقابة المصرية عن التداول زادت شهرتها شهرةً وسعى القرّاء إليها بكلّ أسلوبٍ مُتاح، وإذ لا يختلف اثنان أنّ ما يسمى (بالربيع العربي) استفزّ كتّاباً كثر، فكتبوا حوله أشعاراً وروايات، فإنّ (جمهورية كأن) لعلاء الأسواني تناولت أشياء أكثر بُعداً من (الربيع العربي)، هي تتناول مفهوم الثورة الجدلي برمّته وتتفحّص مواقف البشر تجاهها جاعلةً من المجتمع المصري أنموذجاً لها..
وقد قرأتها بنهمٍ بالغٍ وكلّي أملٌ ألا تنتهي، ثمّ كتبت حولها النقاط الآتية:
بدايةً أسجّل استغرابي من جهالة الأنظمة العربية برمّتها -لا أستثني منها أحداً-، كيف لايفطنون لحقيقةٍ بالغة وهي أن حظر أي كتابٍ سيزيده شهرةً وتداولاً، وسيتناقله النّاس بدافع الفضول أولاً والمعرفة ثانياً، وأنّنا نعيش عالماً مفتوح المصادر وبإمكاننا – كقرّاء- الحصول على أيّ كتابٍ ممنوعٍ بنسخةٍ الكترونية مروّجة على الشبكة العنكبوتيّة!.
علاء الأسواني كاتبٌ له صيتٌ ومعجبون، فلا يمكن أن يكتب روايةً دون أن تصير (تريند) ساعة نشرها مثل (شيكاجو، عمارة يعقوبيان، نادي السيارات)، وللحقيقة فإنّني الآن وعقب انتهائي من (جمهورية كأن) صرتُ أكثر حرصاً على قراءة كل أعمال الكاتب، لما في أسلوبه من سلاسةٍ وبساطة، واتباع اللغة لقلمه طوعاً وانقياداً.
في الرواية شخصيات كثيرة وكلها ممتعة ولها قصة سيرتبط القارئ مع تفاصيلها:القبطي العجوز الغني (أشرف ويصا) الذي يعاني من جفافٍ عاطفي مع زوجته الأرستقراطية (ماجدة)، والتي تترك له البيت بعد تحالفه مع الثورة وفتح أبواب عمارته لقياداتها، فيهجر زوجته ويقبل على خادمته (إكرام) ليتجرّعا كأس الحب والغرام حتى يرتويا.. ثمّ يتبنّى ابنتها فيكون زوجاً وأباً حنوناً في آن.
اللواء أحمد علواني شديد التديّن والذي لايفتر -رغم تديّنه- على تعذيب مساجينه ببرودة أعصاب حتى لو كلفه ذلك جلب زوجات المعتقلين وتعريتهم أمام جموع العسكر وإطلاق أيديهم الخشنة الشرسة في الأجساد الطريّة إمعاناً في العذاب النفسي لمساجينه.نادية ابنة اللواء علواني، المتمرّدة على بطش أبيها، والتي التحقت بالثورة منذ شعلتها الأولى وصارت أبرز المنادين بالثأر (لخالد مدني) شهيد الثورة.الشيخ شامل، الشيخ الدّعيّ الذي يجعل من الدين مطيّةٍ لتحقيق مآربه، والذي يأخذ تعليماته من جهاز المخابرات حتى لو خالفت تلك التعليمات صريح الدين وصحيحه.المذيعة نورهان ذات الحسن الموفور، والتي تمثّل على النّاس الحشمة والخجل، لكنّها تتصيّد بهذه الحشمة أصحاب رؤوس الأموال فتبرز لهم مفاتنها على استحياء فتتزوّج بهم عرفيّاً وتحلّق بثرواتهم وتسعد بكرمهم الجزيل عليها.أسماء ومازن السّقا أحد أعضاء لجان الثورة ومناصريها والذين ضحّوا بكل شيء لنصرة الثورة، لكنّهم كانوا أبرز ضحاياها.ثم نتعرّف على شخصيات أخرى كعصام الشعلان مدير مصنع بلليني للإسمنت، وسائقه العجوز (مدني) والد الشهيد خالد، ومحمد الزناتي البخيل المقيم في السعودية والد أسماء، وغيرهم كثير.
يبدأ الكاتب بتقديم بعض شخصيّات الرواية بأسلوبٍ أقرب إلى السخرية، وسيستمرئ القارى هذه السخرية المبطّنة، ثمّ يبالغ الكاتب بالاستهزاء ببعض الشخصيات حتى نظنّهم أضحوكة العمل حتى نصل إلى ما بعد الصفحة 200 حيث يبدأ الكاتب بالربط بين هذه الشخصيات (الجادّة والمرحة) ليصيروا كلاً متكاملاً يمثّل المجتمع المصري برمّته.
أبطال الرواية هم كل الشخصيات المذكورة آنفاً، لدرجة أنّني خلال قراءة الرواية أفكّر أنه مع من سيختم الكاتب روايته، إذ أنّ ختام مثل هذه الرواية الضخمة بشخوصها وأحداثها وتفاصيلها لابدّ أن يكون شائكاً وصعباً، وختامها وحده إمّا أن يحطّ من قيمتها أو يرفع شأنها عالياً، وتوقعت أن يختم الرواية مع اللواء علواني الذي استفتح به العمل، لكنّه اختار شخصيّةٍ أخرى لم تكن بارزةً خلال مجرى الأحداث لدرجة أنّني ظننته حجراً جامداً، وفي الختام يفاجئنا الكاتب أن هذا الذي كنّا نظنّه حجراً هو في الواقع جسرٌ ينتقل بنا من ضفةِ الأحداث إلى أخرى حيث ختام الرواية.
الراوي عندما كتب عمله هذا كان يفكر بالقارئ، بالتلاعب بعواطفه، بإضحاكه في باب، واستثار دموعه في باب، وقد أجاد في ذلك، ولولا أنّني مأمون الجانب من مثل هذه الأفعال التي يمارسها علينا كبار الكتاب لدمعتُ كثيراً خلال قراءة فصولاً عديدة من الرواية.
الرواية مصيدة؛ فهي تتألف من ثلاثةٍ وسبعين باباً، وفي كلّ بابٍ حبكة، ثمّ تنتهي هذه الحبكة بتشويقةٍ جميلة (لاحظوا إذاً حجم المتعة الذي سيجنيها القارى مع كل هذه الحبكات والتشويقات)، والواقع أنّ أوّل هذه الحبكات يفتعلها الكاتب خلال الصفحات العشرين الأولى، وبهذا ضمن (الأسواني) أن القارئ سيترك كل الكتب التي بين يديه ليتمّ (جمهورية كأن).
في الرواية سلبيّتين واضحتين، الأولى: المشاهد الجنسيّة التي كانت بارزةً جدّاً، ولايرعوي الكاتب عن ذكر الأعضاء بمُسمّاها الشعبي، ولم يستحِ من ذكر تفاصيل المواقعات السريريّة بألفاظها السوقيّة، ولم أدرِ إن كانت هذه عادة الكاتب في سائر أعماله، أم أنّه يجد في هذه التعابير فائدةً ما يفيد النّص وأنا لم أعرف كنهها كقارئ!.
السلبية الأخرى هي تخصيص صفحات طويلة لشهادات الكثير من ضحايا الثورة والذين يحدّثونا عن تفاصيل دقيقة عن التحقيق والاعتقالات والمحاكمات، قد تخدم هذه الشهادات الرواية ولكنّني وجدتها تقتحم منتصف الرواية وثلثها الأخير دون توظيفٍ جيد.
قرأتُ-ربّما- مئات الكتب، لكن هذه المرّة الأولى التي أقرأ روايةً دون أي خطأ نحوي أو طباعي، وكل علامات الترقيم في مكانها الصحيح، وهذا ما يثبت أن الكاتب قدّم عمله لدار النشر بعد أن أتمّ مراجعته بنفسه دون أن تتلاعب به أيدي (بعض خبراء المراجعات اللغوية) الذين يفسدون النصوص الجميلة باعتمادهم قواعد اللغة فحسب دون اطلاعٍ على فقه جماليات اللغة، والتي يعتبرها النحويون أهمّ من القاعدة المطلقة.
عنوان (جمهورية كأن) قويٌ وجميلٌ ومعبر، والكاتب يشرح في صفحةٍ واحدة وبإسهابٍ (مفرط العاطفة)معنى هذا العنوان، ورأيتُ بدلاً من أن أحدّثكم عنها أن أصوّر لكم هذه الصفحة الرائعة التي أعتبرها اجمل اقتباسٍ من الرواية، وقد وضعتها لكم في التعليق الأول فاطلعوا عليه..
صدرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2018 عن دار الآداب في 519 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية جريئة جداً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي وأنصح القرّاء (البالغين) بقراءتها.
- جمهورية كأن
- علاء الأسواني
- دار الآداب