مراجعة رواية “باص أخضر يغادر حلب” للروائي “جان دوست”
في منتصف الشهر الأخير من عام 2016، أعلن النظام السوري بسط سيطرته الكاملة على النصف الآخر من مدينة حلب، ذلك الجزء الذي اقتطعته ميليشيات مسلحة وفصائل مقاتلة مختلفة، تغذيها معارضة تقيم خارج سورية.
أذكر يومها كيف علت تكبيرات العيد من مآذن الشطر الأول من المدينة الذي أقيم فيه، والذي بقي في قبضة النظام طيلة الحرب، وذلك احتفالاً بعودة التئام شطري المدينة بعد طول انفصام.
والعاقل يعرف أنّ من فساد الرأي الغبطة في مثل هذا النصر الذي قام على بركةٍ شاسعةٍ من دماء الأبرياء الذين ماحملوا سلاحاً ولا ناهضوا نظاماً، وإنما أوجدهم حظهم العاثر في بؤرةٍ مشتعلة من حربٍ لاترحم أحداً..
(باص أخضر يغادر حلب) روايةٌ أشبه بوثيقةِ حربٍ، أبطالها هؤلاء الأبرياء الذين وقعوا بين كفي كماشةٍ تطحن العظم؛ طرفها الأول الفصائل المقاتلة التي دغدغت أحلام الأبرياء بوعود النصر وهي وعودٌ كانوا يشحرونها لهم من بئر الإفك والكذب، وطرفها الثاني إعلامٌ حكوميٌّ يعدهم بالعودة إلى حضن الوطن سالمين وهو وعدٌ ينزل من الحقيقة منزلة المفلس، فأيّ سلامةٍ ينتظرونها من طيور المعدن التي تحلق فوقهم لتبصق عليهم النار ليل نهار ؟!!.
وإنّي لم أقرأ هذه الرواية فحسب؛ بل عاينتُها معاينة الحكيم الأريب، فقد كنتُ -ولازلت- في حلب تلك المدة ورأيتُ عجباً من صنوف القتال وطبائع المقاتلين، وكنتُ – كسائر النّاس- أتحيّن الأخبار وأترصّدها، ولا قدرة لي إلا أن أقف منها موقف المتلقي منخلع القلب الذي ما بيده حيلةً إلا أن يناور بين إقبالٍ وإدبار ليقي نفسه وأسرته حرباً طالت الجميع.
إذن قرأتُ هذه الرواية في جوٍّ عميقٍ من الجهد والتعب، وقد نبشَتْ أحداثها الأليمة عندي ذكرياتٍ كانت مختبئة خلف أكياس الرمل، وأعادتني إلى عيونٍ ذابلة لكثيرٍ من أقربائي وأصحابي اغتالتهم الحرب وترك غيابهم في نفسي مشاعرَ مختلفة من حزنٍ وأسى خالط بعضها بعضاً. وقد أحببتُ الآن -عند الفراغ منها- أن أشارككم حولها النقاط الآتية:
لمن لايعرف؛ فإنّ للباص الأخضر معنىً خاص في القاموس السوري عامةً، أوجده جوّ الحرب وأيام الهدنة على قلتها، فالباصات الخضر كانت تتبع النظام السوري، ودورها أن تُخرج المدنيّين والمقاتلين المسلحين مع عوائلهم – أو بدونهم- من منطقةٍ ما (إلى مدينة إدلب على الأغلب) ليُتاح للجيش السوري الدخول للمنطقة وإعلانه النصر فيها، وذلك ضمن اتفاقٍ تضمنه الدول الكبار التي تدير الحرب في المنطقة. وفي واقع الحال هو خروجٌ مذلٌّ لأولاء المقاتلين الذين ما قبلوا به إلا بعد أن تكدّر عليهم العيش وتحوّل الحصول على الماء والغذاء إلى حلمٍ بعيد المنال، وصار ركوب الباص الأخضر طوق نجاةٍ أخير للبقاء على قيد الحياة.
خرج هؤلاء من بيوتهم مرغمين، يسوقهم جنود الجيش السوري سوقاً إلى الباصات الخضر، وهم بخطاهم المتثاقلة يحملون معهم ما خفّ حمله بعد أن فرغت أيديهم ممّا زاد ثمنه، تاركين ورائهم تاريخاً وحكايةً وذكرى وحياة.
(أبو ليلى) هو أحد هؤلاء المدنييّن الذين لحقوا ركب طالبي السلامة في الباصات الخضر، وهو في مقعده الأول ينتظر انطلاق الحافلة بدأ يسترجع ذكرياتٍ مفجعة لأسرته، لاسيّما حفيدته الصغيرة (ميسون) التي شطرتها شظيّة برميلٍ متفجّر إلى نصفين مطفئةً بذلك شمعة عمرها الخامسة، وتاركةً أمّها (ليلى) في فجيعة نكراء شلّت لسانها عن النطق.
تروي لنا فصول الرواية مشاهد الموت على ألسنة أصحابها وهم (نازلي)زوجة (أبو ليلى) التي استشهدت بتفجير برميلٍ سقط فوق أحد المشافي، وأبناءه عبد الناصر وعاصم وعمر وابنته ليلى التي فقدت عقلها بعد أن فقدت زوجها الدكتور (فرهاد) وابنتها (ميسون). أعجبني هنا الحوار الدائر بين أبو ليلى وابنه عبد الناصر الذي قتلته رصاصة قناص فلسطيني في حرب الثمانينيات في لبنان، وكيف أنّ كل الكتب التي أرّخت لمجازر حرب المخيمات جانبت الحقيقة أو انتقصتها.
في الفصل الأخير يخلو الباص من ركابه ليبقى (عبّود العجيلي/أبو ليلى) وحيداً تزوره أطياف أسرته التي قتلتها الأقدار الماحقة، وهنا يسردون عليه قصصهم المفجعة، فقتله حضورهم بما يحب، كما قتلته قصصهم بما يكره.
قد لا استطيع شرح تقنيّة السرد التي اعتمدها الكاتب بدقّةٍ متناهية؛ ولكن تخيّلوا معي طفلاً هرب من مشهدٍ أفزعه، وجاء يركض ليحدّث أهله أهوال ما رأى؛ فصار يقرأ عليهم فصول الموقف بأنفاسٍ متلاحقة وكلماتٍ محمومة تخرج من شهقات صدره المتسارعة والخائفة. هذا -بالضبط- ما اعتمده الكاتب (جان دوست) في صياغة تراكيبه وجُمَله، ماجعلني كقارئ أعيش جوّ الرعب والأسى الذي تخلّفه الحرب بحذافيره، وهو يزيد في مصداقيّة العمل ويثبت حرفيّة الكاتب.
في الرواية بعض الأخطاء المتعلقة بتحديد الأماكن في حلب، وهي أخطاء ليست بذات قيمة ولا تسيء للعمل، ويشفع للكاتب أنه غادر مدينته منذ ما يزيد على العشرين عاماً، ولاشك أنّ حلب بدّلت أثوابها مراراً خلال تلك المدّة، وطفى على ذاكرة الكاتب شيءٌ من ضباب النسيان.
يحترم الكاتب قارئه فلا ينحاز لفصيلٍ دون آخر، ولا لدولةٍ أو تنظيم، هو فقط يُدين الحرب وأطرافها وأدواتها، وينحاز بكلّيته للأبرياء الذين كان جُلّ حلمهم أن يعيشوا بسلام.
صدرت الرواية عن منشورات المتوسط / ايطاليا، وتقع في 146 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية رائعة عن مدينةٍ تهكّمت بها الحرب، وبسطاء تقلّبوا بين همٍّ وهمّ، وأطفالٍ أكلت الحرب أجنحتهم الصغيرة.
🔸️اقتباسات أعجبتني من الرواية:
“أشارت ساعات اليد في معاصم القتلى تحت الأنقاض إلى لحظات الدمار الرهيبة التي طالت أحياء كثيرة في حلب وغيرها من المدن المفجوعة”.
“علم أهل حلب أنّ سقف التمنّيات ينخفض في الحروب، بل يهبط السقف على التمنّيات ذاتها حتى لايبقى منها سوى تمنّي الموت”.
“إذا حابين تضلّو بحلب ضلّو. أنا رايح. البُزُق عندي بألف مُعارضة وألف نظام”
“سالت قطرات المطر ببطء على الزجاج، رسمت تلك الخطوط المائيّة ملامح بلاد مُغتصبة تناوب عليها زناةٌ من بقاع الدّنيا كلها”.
“كانت القذائف تروي لأحياء حلب الشرقيّة كلّ ليلةٍ قصصاً واقعيّة، لاينهزم فيها الأشرار”.
“الذكريات سكين قد ننتحر بها أحياناً”.
“مرّت الذكريات في خياله مثل باصٍ أخضر يعبر أنقاض مدينةٍ مهجورة”.
- باص أخضر يغادر حلب
- جان دوست
- منشورات المتوسط