مراجعة كتاب ” الملكة والخطاط” للكاتب “موسى عبّادي“
عرفتُ اليهودَ صغيراً، ودخلتُ بدافعِ الفضول كُنُسَهُم وأديرتهم، وسمعتُ تراتيلهم وصلواتهم وشيئاً من أحاديثهم التي لا أذكر شيئاً منها الآن.
في ثمانينات القرن الماضي كنتُ صغيراً.. نعم، لكنّني كنتُ واعياً بما فيه الكفاية لألاحظ انتشارهم وتغلغلهم في نسيج المجتمع الحلبي، وسيطرتهم على مناطق كبيرة في وسط المدينة كمحلّة الجميلية مثلاً.
وللبلدان العربيّة ذاكرةٌ مع اليهود تمتدّ من العراق إلى جزيرة العرب واليمن والقرن الأفريقي، ومن بلاد الشام إلى مصر والمغارب العربي.
في الشام عامل الدمشقيّونَ اليهودَ معاملة الصّديق الصاحب والخليل اللاحب وعرفوهم فقراءَ شحّاذين يتكفّفون النّاس، وأغنياءَ فاحشي الثراء كتجّار الألماس، و عوامهم يمتهنون مهن مختلفة؛ فتجد منهم الحذّاء والبذّاء، والصيرفي والشربتجي، والراقي والخِرقي، والحدّار والبيّار، والعيّاش والنقاش، والقليطاتي والصرماياتي، والخصّاف والعرّاف ونافخ الخراف، وكلهم لاتزال بيوتهم ودكاكينهم مهجورةٌ لاتُباع ولا تُؤجّر وقد رحلوا عنها في بداية تسعينيات القرن الماضي تاركيها خلفهم كالوقف الدائم دون أن يخلفّوا وراءهم عنواناً ينفع لبريدٍ يُرفع.
موسى عبّادي واحدٌ منهم، ولد ونشأ في حارة اليهود، ولأنّه ابن رئيس الطائفة وعميدها فقد نال من العلم أحسنه ما جعله كاتباً ومؤلفاً، فرّ إلى فرنسا منذ زمنٍ بعيد وكتب قصصاً عن ذكريات طائفته في دمشق، ونشرها عام ١٩٩٣ ضمن مجموعةٍ قصصيّةٍ جميلة بعنوان: الملكة والخطّاط ، وفازت حينها بجائزة الأكاديمية الفرنسية للقصة القصيرة، وقد استمتعتُ بقراءتها وسجّلتُ حولها النقاط التالية:
في الكتاب 25 قصة مكتوبة بروح الكراكوزاتي الدمشقي، وبلغة هي أقرب ما تكون إلى لغة مسرح العرائس، وهذا وحده يجعل الكتاب تحفةً قصصيةً لما تحويه من مفرداتٍ كادت أن تندثر مع اندثار مسرح العرائس وشخوصه.
أجاد الكاتب من حيث تصويره لواقع المجتمع اليهودي وعاداتهم ويومياتهم وكشَفت لنا القصص عن كثيرٍ من صفات أبناء جلدته، كاليهودي اللئيم الزنِخ، والظريف اللطيف طيّب المَعشر.
قد تكون بعض القصص عاديّة وغير لافتة، وقد يفتقر بعضها لأبسط شروط القص والحكاية، والواقع أن حصولها على جائزة عالمية مهمّة لا يخلو أبداً من دوافعَ سياسيّة ليس هنا وقت تناولها، وربما يستشفّ المطلع على سيرة حياة الكاتب سبب حصوله على الجائزة، لكنّها بالمجمل تكشف شيئاً مستوراً عن طائفةٍ كانت تعيش بيننا ثمّ بادت بعد كثير هجرةٍ ونزوح.
أجمل ما في الكتاب لغته الجميلة وأسلوبه الكراكوزاتي الساخر الذي لايتقنه إلا الأديبُ ماهرُ الصّنعة، والذي ماعدّتُ أجدُ مثله في ساحاتنا الأدبيّة، موسى عبّادي واحدٌ من أولئك الكتّاب إلا أنّه لم ينل حظه من الإنتشار والتكريم، بل بقي مغمورَ الذّكر حتى بين أعتى المثقفين.
صدر الكتاب في 180 صفحة من القطع المتوسط عن دار المركز الثقافي العربي، ويستحقّ الكتاب أن يُقرأ ويُهدى ويُشادَ به، وقد فعلت.
- الملكة والخطّاط
- موسى عبّادي
- المركز الثقافي العربي