العاشق الياباني

مراجعة رواية “العاشق الياباني” للروائية التشيلية “إيزابيل الليندي”

في دار العجزة لا يبرأ أحدٌ من مرضه، ولكنَّ العلَّة هناك لا تجد طريقها إلى الروح ما دامت في شوقٍ ثائر وحب لايعرف الموت.

وفي دار العجزة تزدهي (ألمى) العجوز بأزهار الغاردينيا التي تحمل معها أسرار الرسائل والهدايا السرية من عاشقٍ بعيد..

“هذه الليلة سوف أبقى في المنزل استمتع بكتابٍ جيد، انضم إليّ وتبرع بما كنتَ ستفعله في الخروج لأي منظمةٍ تُعنى باللاجئين، لقد قرأتُ للآجئين لأنهم أشخاصٌ لديهم حياة غنيّة ويستحقون فرصة العيش في أمانٍ وكرامة.”

بهذه الكلمات البسيطة شاركت الكاتبة التشيلية (إيزابيل الليندي) قرَّاءها في الأول من أكتوبر 2019 على صفحتها الموثَّقة على (فيسبوك)، ودعتهم إلى دعم اللاجئين وتثقيف المجتمعات بحقوقهم وإمكانياتهم.

إنَّ هذه البادرة الإنسانية التي نشرتها الكاتبة العالمية لم تُفاجئ أحدًا؛ لأنَّ (الليندي) ومنذ عملها الروائي الأول الذي طار بها على جناح الشهرة في أصقاع العالم (بيت الأرواح)، اشتُهِرت بحبها وتفاعلها الدائم مع أفراد الطبقات المسحوقة والتي يتعامى العالم عنهم وعن حقوقهم المسلوبة.

وفي روايتها (العاشق الياباني) تختار لنا الكاتبة واحدةً من أكثر شرائح المجتمع تهميشًا، فتدخل مع قرَّائها دارًا للعجزة والمُسنين، وهناك تلتقي الشابة (إيرينا) الموظفة حديثًا في الدار بكثير من العجائز الذين يعانون من ثقل الأيدي وتقوُّس الظهور وعماشة العيون، ولكنَّهم يملكون صدورًا رحبة وذكريات تغوص في الأيام الماضية كثيرًا.

وهكذا، تُصادق الشابة(إيرينا) العجوز (ألمى) على الرغم من فارق العمر الواسع، وتجالسها مجالسة الندماء فيما يُتاح لها من أوقات الفراغ، وتبثُّها شيئًا كثيرًا من أوجاع القلب وأحزانه، أما(ألمى) والتي ستبقى وحدها بطلة الرواية وسرَّها ومدار أحداثها على الرغم من تنوُّع مرضى الدار وساكنيه.

“عليّ أن أرتب كل هذا، إيرينا. لا أريد أن تمتدّ يد أحدهم إلى خصوصياتي، بعد أن يدركني الكبر.”

إنَّ (ألمى) العجوز القادمة من شرق أوروبا، والتي هُرِّبت وهي طفلة إلى بيت خالتها في أمريكا، وهُرِّب أخوها (صامويل) إلى إنكلترا خوفًا عليهما من الإبادة الجماعية لليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ صهرت أفران الغاز النازية هناك والديها، فاستسلمت (ألمى) للواقع الجديد الذي فُرض عليها وهو البقاء مع أسرة خالتها بعدِّها أسرتها الجديدة.

“كان لهذا الرحيل وقعٌ سيء على نفسية ألمى التي باتت مهمومة ومنزعجة، لاتفتر عن التفكير في أن هذا الرحيل لن يكون سوى نذير شؤمٍ وتمهيدٌ لتحولاتٍ جذرية.”

وهناك تتعرَّف (ألمى) إلى ابن المزارع الياباني (إيشيمي)، وتجمعها به في فورة الشباب لقاءات تستبيح الروح والجسد، فأحبته حبّاً جارفاً وبادلها بدوره مشاعر الحب الصادقة، ولكن؛ عندما بدت عليها بوادر الحمل وجدت نفسها مضطرةً إلى قبول الزواج من ابن خالتها (ناتانيل) الذي وافق على تغطية فضيحتها، وانتزعت منه عهدًا بكتمان السر والوفاء بالوعد.

وتستمر الرواية بحديث ألمى عن ذكرياتها والحب الذي نما في السر، وهي تجلس قبالة شباك غرفتها الذي تقطف منه نسائم الحياة، وبأسلوب (الفلاش باك، flash back) تروي للشابة (إيرينا) كيف أجهضت جنينها الأول وكيف بقيت وفيّةً لحبّها الوحيد (إيشيمي) الذي كانت تزرع تنهيداتها الحارَّة على كتفه، وكيف تقبَّل زوجها هذه الخيانة المعلنة بل تواطأ معها ووفَّر لها فرصة اللقاء مع حبيبها الياباني، وأبدعا معًا في تمثيل دور الزوجين السعيدين وما في ذلك من نفاقٍ اجتماعي مخبوء يحترسان من كشفه.

ثم تتفتَّح أبواب الرواية على شتَّى أنواع الخيانة، وتُشرع أبوابها لنكتشف أنَّ للزوج (ناتانيل) حكايةً وأسرارًا من نوع آخر، وأنَّ ثوب البركة والصلاح الفضفاض الذي كان يرتديه إنّما كان تعميةً له على خيانةٍ وشذوذ كان يخفيه ولايبديه سنواتٍ طويلة حتى عن زوجته (ألمى) التي كانت أجرأ منه في المصارحة وكشف المستور، وأنَّ علاقتهما إنَّما بُنيَت لتمرير علاقاتٍ تحت الظل، وأنَّ زواجهما أسرع ذوبانًا من الملح المبتل.

“منذ أن تكوّن لدى ناتانيل وعيٌ بالحياة، وهو يحسّ بنوعٍ من الانجذاب، والخوف والشهوة، إزاء من هم مثله من الرجال.”

وتمضي الرواية في أحداثٍ أكثر تعقيدًا، وتنتقل بالقرَّاء إلى شرائح أكثر تهميشًا ومعاناةً، فتتناول الإبادة الجماعية ومعاناة اليهود فيما يُسمى بأفران الغاز، ثمَّ توظِّف بحبكة راسخة معاناةَ الجنسيات الآسيوية في أميركا إبان الحرب العالمية الثانية ونزوعهم إلى العمل وحب الحياة حتى في معسكرات الاعتقال التي تفتقر إلى أدنى مقومات حياة البشر، ثمَّ تتناول الكاتبة سيرة الشابة (إيرينا) الهاربة من تعنيفٍ منزلي عايشته منذ طفولتها الأولى.

وقد حافظت الكاتبة على أسلوبها السردي المتين والواقعية السحرية التي عرفناها منذ عملها الأول، وهي تقدِّم -كعادتها- روايةً متكاملة بشخصيات قليلة وأحداث عدة تتعلق بالعتاب الدائر بين الفضيلة ونفس الإنسان الجامحة بفطرتها -ربما- للفساد وسوء الطويَّة، وما الحياة عندها إلا زمنٌ طويل من معاناةٍ متصلة، وموجزها الجميل ساعةٌ مشبوبة بالحب والأمل.

  • العاشق الياباني
  • إيزابيل الليندي
  • دار الآداب